الدكتور والمفكر فرج فودة، والشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازي، رجلان من طراز خاص، تجمعهما رؤية مشتركة دفاعا عن الوطن، وحماية لهويته من كل عابث به.
وقد خاض فودة معارك طويلة ضد التطرف والظلاميين، وتمر هذه الأيام الذكرى الـ29 لوفاته، بعدما دفع حياته ثمنًا لمواقفه، من أجل حماية وطن من التطرف، والإرهاب.
وشاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى متعه الله بالصحة وأطال المولى في عمره، يسير على نفس الطريق، فما زال يبدع بالكلمات وقدم رسائل قوية لمواجهة كل أفكار التطرف، ويحارب بكل قوة هؤلاء المارقين فكريا والساعين إلى كسر الوطن.
واليوم يحتفل شاعرنا بعيد ميلاده الـ86، في الوقت الذى ما زال يمطرنا شعرا يناقش قضايا أوطاننا، تأكيدا لريادته في حركة التجديد للشعر العربى المعاصر. و«البوابة» تقدم هذه السطور تخليدا لذكرى من رحل شهيدا وتكريما لمبدع ما زال يقاتل.
فرج فودة.. ضحية الإرهاب
تمر اليوم ٨ يونيو الذكرى الواحدة والثلاثون لاغتيال شهيد الكلمة فرج فودة والذى صدق حينما قال «العقل المصرى قابل للمحاورة معك مهما اختلفت معه بشرط أن تكون واضحا ومقنعا، وهو أيضا مستعد لتلقى آرائك مهما كانت بشرط أن يتيقن من صدقك في التعبير والدفاع عنها، وحاسته في إدراك الصدق وتميزه حاسة باهرة».
ولعل هذا يفسر لنا تقبل المصريين لفكر رواد الحضارة في بداية القرن العشرين، أمثال: «رفاعة الطهطاوى، وعلى مبارك، وأحمد لطفى السيد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وطه حسين، وعلى عبدالرازق، وأحمد أمين.. وغيرهم».
ربما كلام فرج فودة هذا يعطينا دفعة للتعامل مع الشعب المصرى والاهتمام بمحاورته بديلا عن فرض الوصاية عليه من قبل بعض العلمانيين أو ممن يطلقون على أنفسهم هذه التسمية بأنه شعب متخلف ولا يجد الحوار معه نفعا، إذ يؤكد فرج فودة على أهمية الحوار ولكن بشروط مهمة، أساسها المصداقية، والدفاع عن الرأى ليس بتجهيل الآخر أو فرض وصاية عليه بل بالحوار الصادق، والاستمرارية حيث يضرب لنا مثلا برواد نهضتنا في العصر الحديث.
فلم يكن واحدا من هؤلاء يسير مع التيار العام، أو يرضخ لما يطلبه الرأى العام. أو يتمسك بالثابت والمستقر، وقد تكالبت عليهم العقول الراضخة والظلامية إلا أن من بقى هم الرواد وأما الزبد فيذهب جفاء.
ويستطرد فرج فودة ويقول: «وليس عليهم إلا أن يدركوا حقيقة واحدة، وهى أنهم موجودون لأداء دور تفرضه عليهم معطيات الواقع ومتطلبات المستقبل، ويدفعهم إليه إيمانهم بأوطانهم وبمستقبل الأجيال القادمة، وأن وجودهم مرتبط بأداء هذا الدور، وأنهم بقدر هذا الأداء سوف يكونون، وبقدر التضحية سوف تنتصر دعوتهم، وبقدر قوة مناوئيهم وعنفهم وجبروتهم، بقدر ما يكون لأدائهم مضى، ولدورهم تأثير».
هكذا كان فرج فودة يعطى نفسه وإيانا الدرس في الدفاع عن أفكارنا وحريتنا ووطننا.
الإرهاب حسب الطلب
«إن الإرهاب لا يعيش، ولا ينمو إلا في ظل الديماجوجية، وإلا عندما تفقد العين القدرة على التمييز بين الإرهاب وبين الشرعية، وإلا عندما يتنادى البعض بأن هناك إرهابا مشروعا، وإرهابا غير مشروع، وإرهابا مستحبا، وإرهابا غير مستحب».
وضرب فرج فودة مثلا بقتل السادات وقتل رجال الشرطة في أسيوط حيث صنفت بعض القوى الحزبية قتل السادات بأنه عمل بطولى، وأما قتل ضباط الشرطة صنفوه إرهابا.
وهنا يضع فرج فودة يده على الجرح وعلى الأزمة الحقيقية لدى نخبنا الثقافية وفى القلب منهم هؤلاء الليبراليون الذين يتشدقون طول الوقت بحقوق الإنسان طالما هذا الإنسان ضد السلطة، بينما لو كان مع السلطة فليس له أى حقوق بل يكون بالنسبة لهم خائن وعميل وأمنجى، وليس شرط أن يكون مع السلطة في كل المواقف، فقط لو أيد السلطة أو الحكومة مرة واحدة يريدون إقامة حد الخيانة والعمالة عليه.
هذا الجزء من كتاب «الإرهاب» لفرج فودة يضعنا أمام أزمتنا بالفعل، وأعتقد أننا جميعا نتذكر ما حدث من عاصرى الليمون وما حدث بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وموقفهم من فض اعتصامى رابعة والنهضة، ودفاع الكثير من العلمانيين والليبراليين حتى اليوم عن هؤلاء الإرهابيين في السجون المصرية أو بعد النطق بالحكم ضدهم، وكأن هؤلاء الإرهابيين حمائم سلام لم يغتالوا الوطن، ولم ينتهكوا حرماته، وخير مثال على ذلك أولئك الذين ما زالوا يدافعون عن جماعة إرهابية أرادت قتلنا جميعا ورفعت شعار «يا نحكمكم يا نقتلكم».
فنحن الآن في هذه الحالة تماما من عدم القدرة على التمييز ما بين الإرهاب والشرعية.
الشائعات والطلقات
يقول فرج فودة، شهيد الكلمة، الذى اغتالته رصاصات إرهابية غادرة في ٨ يونيو ١٩٩٢: «للإرهاب أنياب ومخالب، تتمثل في إطلاق الشائعات الكاذبة المدروسة، والتى تمثل – إذا استعرنا أسلوب حرب العصابات- ستار الدخان الذى يحمى الإرهابيين، سواء في إقدامهم على الفعل، أو في الهروب بعده، بأقل قدر من الخسائر، وبأكبر قدر من تجميد وتحييد الاستنكار الشعبي».
«لست أدرى كيف لم ينتبه أحد إلى أنها أصبحت سمة أساسية للعمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة، وكيف لم تصل درجة التنبه إلى دراسة كيفية مواجهة هذه الشائعات إعلاميا، وسياسيا، وأمنيا. لأنها في النهاية لا تقل خطرا عن البندقية في كل الأحيان، ونرتبط بها ارتباطا وثيقا في أغلب الأحيان».
أعتقد أننا ما زلنا ندور في نفس الدائرة، فما زالت جماعة الإخوان الإرهابية تمارس هوايتها المفضلة في صناعة ونشر الشائعات والأكاذيب مؤيدة بأجهزة استخباراتية، وقنوات فضائية ويمتلكون عددا كبيرا من المواقع الإلكترونية، ولهم أسهم في عدد من الصحف العالمية يبثون خلالها أكاذيبهم وشائعاتهم، وما زالت في المقابل مجهودات الدولة في مجابهة هذه الشائعات سواء كان على المستويين الإعلامى أو السياسى ضعيفة.
بل والأكثر من ذلك خطرا أن تحول الصراع بين هذه الجماعات وبين أجهزة الدولة خاصة مؤسساتها الإعلامية والثقافية، والدينية على امتلاك صحيح الدين، حيث تتهم هذه الجماعات الدولة بأنها دولة طواغيت ولا تقوم بتطبيق شرع الله فيكون الرد من مؤسسات الدولة أن هذه الجماعات ضالة، وخوارج عن الإسلام، فأصبحنا وكأننا في مباراة تكفير وتكفير مضاد، هذا يؤكد أننا لم نتجاوز حتى الآن اللحظة التى كتب فيها فرج فودة كتابة هذا عام ١٩٨٧- ربما نكون تخلفنا عنها- فكان متاحًا لفرج فودة ما لم يتح لنا الآن رغم تطورنا التكنولوجى، وكثرة القنوات التى نستطيع استخدامها في الرد على هؤلاء.
أحمد عبد المعطى حجازي
في مملكة الحرف كثر، يخطونه وكأنه ولد للتو كأن لم يكن من ذى قبل، يخرج من ثغر أقلامهم شخوصا منمقين يسيرون على سطور الحياة بأحلامهم وأوجاعهم وأفراحهم، مدادهم عشقهم لـ«بنت الضاد» تلك الملكة صاحبة الأبحر الواسعة التى غرق فيها أمهر السباحين عدا من صنع من موهبته طوق نجاة، فلاطف أمواجها وعرف مكنونها والتقط دررها وصنع له تاجا من لآلأها وتدرج في مملكتها حتى بات أميرا في بلاطها ذائع الصيت.
طفل نهل من معين القرآن حتى تشبع بمفرداته وحفظه عن ظهر قلب، وتلاه هناك في الريف في قريته «تلا» بالمنوفية على مسامع البشر والحجر والأشجار، فأنصتوا له.
قبل أن يلملم سنوات عمره ويغادر إلى المدينة وضع في صندوق الزمان رسالته: «ولدت هنا كلماتنا.. ولدت هنا في الليل يا عود الذرة.. يا نجمة مسجونة في خيط ماء يا ثدى أم لم يعد فيه لبن.. يا أيها الطفل الذى ما زال عند العاشرة لكن عينيه تجولتا كثيرا في الزمن».
انتقل مع أسرته ومع حلمه إلى المدينة فتعثرت قدماه في إحدى المظاهرات ليدخل السجن شهرا ينقش فيه على متون الزمان تجربة القيد كطائر كان يحلق في فضاء رحب وقيدت أوابده فخرج يهجو المدينة:
«الدجى يحضن أسوار المدينة.. وسحابات رزينة خرقتها مئذنة ورياح واهنة ورذاذ.. وبقايا من شتاء..وتلاشى الصمت في وقع حوافر.. وترامى الصوت من تلّ لآخر في المقطّم.. وبدا في الظلمة الدكناء فارس يتقدّم.. وبدا في البرج حارس وجهه في المشغل الراقص أقتم متجهّما.
«سارق النار» الذى تمعن في تفاصيل «مدن الآخرين» وتحدث بلغاتهم وقدم نفسه تعريفا: «الشعر رفيقي» أبى أن يقتفى أثر الأولين ويكتفى بما قيل لكن النكسة جمحت جواده وخلفت في نفسه انكسارا كبقية أبناء جيله الحالمين، فبحث عن سماء أخرى لأنه وإن أحاط بحرفه الحزن إلا أنه لم يكن قط شاعرا عدميا بل كان يثور على أصفاد الحزن ويُشعل الرغبة في ذاته ليعبر لشطآن الحب والحياة.
أطل «حجازي» على مدينته الحزينة ورثى ناصر وكأنه يرثى حلمه قبل أن يشيعه إلى مثواه الأخير: «كنتُ في قلعةٍ من قلاع المدينة ملقى سجينا..كنت أكتب مظلمة.. وأراقب موكبك الذهبى.. فتأخذنى نشوة وأمزِّق مَظلمتى.. ثم أكتب فيك قصيدةْ.. آه يا سيّدى!.. كم عطشنا إلى زمن يأخذ القلب.. قلنا لك اصنع كما تشتهى.. وأعد للمدينة لؤلؤة العدل.. لؤلؤة المستحيل الفريدةْ».
أستاذ السوربون لم يتخل عن اللحن القديم بل صنع آلته الشعرية من وترى الشعر قديمه وحديثه، فحافظ على الشكل القديم عندما أراد أن ينتقل من مرحلة التصوير إلى مرحلة الغناء، وكأن لجأ إلى الشكل التقليدى ليغنى فالغناء يتطلب نفسا طويلا ليحتفظ بوحدة البيت ووحدة الإيقاع وبدا ذلك جليا في قصيدته «بغداد والموت»: «وأزّ في نهاية السرداب باب.. وشدت العيون نحوه.. كأنها حراب..صدى خطى، أفسد وقعها الكلال..القلب دق.. النسر حط في دمشق.. عدنان طير لا ينال..من قاع حفرتى أغنى يا أوائل النهار.. أحلم كالبذور في الثرى بعيد الاخضرار».
حجازى معين ما أن نهلت منه إلا وحادثتك روحك على الاستزادة فطعم الحرف مختلف وحدود الكلمات فضفاضة، وكلماته موزعة بين البحور وإن رسى على بحر «الرجز» فلا قدماه تسقط في النثر ولا تتعثر في تعقيدات الفصحى.
ويبقى عنه الكثير.
أستاذ السوربون لم يتخل عن اللحن القديم بل صنع آلته الشعرية من وترى الشعر قديمه وحديثه، فحافظ على الشكل القديم عندما أراد أن ينتقل من مرحلة التصوير إلى مرحلة الغناء
ما زلنا ندور في نفس الدائرة، فما زالت جماعة الإخوان الإرهابية تمارس هوايتها المفضلة في صناعة ونشر الشائعات والأكاذيب مؤيدة بأجهزة استخباراتية.