الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مفكرون خالدون| جلال أمين.. مفكر البسطاء

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن جلال أمين، مجرد أستاذ أكاديمي وعالم اقتصاديّ كبير، بل كان مهمومًا بحب الوطن والمصريين وأحوالهم المعيشية والتى تجلت في معظم كتاباته وأفكاره، لاسيما الاجتماعية منها، فقد حول علم الاقتصاد سواء في الدرس الأكاديمى أو في كتاباته إلى علم أكثر إنسانية، علم فيه روح وحياة بعيدا عن جمود المعادلات الرياضية والانحرافات المعيارية وحسابات الأرباح والخسارة والعرض والطلب.. إلخ.
أثبت جلال أمين في جل كتاباته أن المفكرين ليسوا نبتا شيطانيا في جسد المجتمع بل هم منه ومنغمسون في أتراحه وأفراحه ويتألمون لآلامه، ولد الكاتب والمفكر جلال أمين في مدينة القاهرة عام ١٩٣٥، وهو ابن الأديب والمفكر والمؤرخ أحمد أمين، وهو صاحب تيار فكرى مستقل.
قام بتحويل سيرته الذاتية إلى سيرة وطن فقارن بين ظروف نشأته وظروف نشأة والده ومن ثم أولاده وأحفاده، ويرجع الملاحظات الخاصة (التى قد تكون عادية ويعتبرها البعض عابرة) إلى ظواهرها وأصولها العامة فيربط الخاص بالعام ويتحول الفرد إلى مرآة عاكسة لمجتمعه.. ويتحول كتاب السيرة الذاتية إلى كتاب يتناول حياة أجيال بكاملةا.. ويتناول في الكتاب تحوله الفكرى العميق والهادئ من القومية في بواكير شبابه إلى الاشتراكية إلى المادية الوضعية، إلى أن وصل إلى مرحلته الأخيرة في نظرته الإيجابية والمتعاطفة مع الدين عموما والإسلام خصوصا، وهى نظرة أخرجته من صف اليساريين ولكن لم تضعه في خانة «الإسلاميين».
حينما قرر جلال أمين مناقشة الاقتصاد المصرى في حقبة مبارك، لم يكتف مثل غيره بقراءة ما آلت إليه الأمور، بينما ذهب بعيدا للنبش في بدايات هذا الاقتصاد، حيث تناول في كتابه المهم الذى يميل إلى التاريخ الاقتصادى «قصة الاقتصاد المصرى من عهد محمد على إلى عهد مبارك»، ويتناول فيه مرحلة مهمة من تاريخ مصر الاقتصادي، منذ عهد محمد على بداية القرن التاسع عشر، ومرورًا بأبنائه، ثم ممارسات الاحتلال الإنجليزي، ثم مرحلة الثورة عبر عهد عبدالناصر والسادات، وانتهاء بعهد مبارك.
ورغم إشادة الكاتب بتجربة عبدالناصر من اتباع السياسات الاقتصادية أو توجهه لتمويل مشروعات التنمية، في إطار نموذج الاعتماد على الذات، فإنه يؤخذ عليه، اعتماده على المعونات الغذائية الأمريكية لمدة عشر سنوات، التى استمرت حتى فبراير ١٩٦٧، واعتذرت أمريكا عن تجديد اتفاقية المعونات الغذائية التى كانت تقدمها نظير تحصيل قيمتها بالجنيه المصرى وبسعر فائدة ٤٪.
بينما تميز عهد السادات كما يقول الكاتب بأنه كانت هناك إغراءات كثيرة من قبل الدائنين الغربيين للتوسع في الدين، وكذلك الانفتاح الاقتصادى على الغرب واتباع سياسات اقتصادية متناقضة، بين قطاع عام مكبل، وعدم تجديد بنيته الإنتاجية، وبين اتجاه حركة استيراد غير منضبطة، ما أدى إلى عدم توصيف دقيق للهوية الاقتصادية لمصر فلا هى اشتراكية، ولا هى اقتصاد سوق حرة. ولم يرصد جلال أمين في كتابه تغيرا يذكر في عهد مبارك من حيث السياسات الاقتصادية أو التوجهات التنموية، فمبارك أيضًا اعتمد نفس السياسة من توسع في الاقتراض من الخارج، وبخاصة بعد مضى السنوات الخمس الأولى من حكمه.
يعد كتابه «ماذا حدث للمصريين؟» واحدا من أشهر كتبه وأوسعها انتشارا، حيث يقوم بالحفر المعرفى في أعماق الشخصية المصرية ليحلل ما حدث من تغيرات في حياة المصريين وطريقتهم خلال ما يقرب من نصف قرن وذلك بأسلوب ساخر جذاب. فيتناول مثلا الطبقة الوسطى والتعصب الدينى والمرأة والأسياد والخدم والهجرة واللغة العربية والسيارات الخاصة وأفراح الأنجال والتصييف والأغانى والأفلام ومواضيع أخرى.
ورغم أن المسافة الزمنية التى تفصل بيننا وبين الكتاب تتجاوز العشرين عاما، فإنه من بداية الكتاب تشعر كأنك تناقش نفس أوضاعنا المعيشية الآن، وكأنه لم تجر مياه في النهر، وكأننا لم نمر بثورتين وصراع مرير مع جماعات متطرفة. ويقدم جلال أمين كتابه في مقالته الأولى والتى عنونها بـ«الحراك الاجتماعي» فيقول: «ليس هناك في مصر من لا يتكلم عن «الأزمة» أو«المحنة» فسواء كان الموضوع هو الاقتصاد أو المجتمع أو السياسة أو الثقافة والفن، ما أسرع أن ترد عبارات مثل محنة الاقتصاد المصري، أو تدهور الأخلاق والقيم، أو مأزق السياسة في مصر، أو انحطاط الثقافة المصرية... إلخ».
هكذا يظل الجرح مفتوحا نازفا لم يجد من يقوم بعلاجه، ويدخلنا هذا الجرح إلى حالة من حالات الإعياء الأخرى، التى تنتاب مجتمعنا والتى يناقشها جلال أمين تحت عنوان «الطبقة الوسطى» ويقدم في بداية الحديث عنها ملاحظتين، الأولى أنه إذا أخذنا صورة فوتوغرافية للمجتمع دون أى تدخل منا، سنجد المجتمع يتكون من ملايين الأفراد أو الأسر، يحار المرء في القول: أين تبدأ طبقة وأين تنتهى أخرى؟ ومع هذا فإننا إذا رتبنا هذه الملايين من الأفراد أو الأسر، حسب معيار معين أو مجموعة معايير كالدخل والثروة، أو مستوى التعليم أو حجم النفوذ السياسي، أو نوع التطلعات والآمال أو القيم أو شرائح تشترك كلها في خصائص معينة. وكثيرا ما نجد من الملائم جدا أن نتبنى ذلك التصنيف العتيد إلى طبقة عليا وطبقة وسطى وطبقة دنيا. أما الملاحظة الأخرى التى يسوقها جلال أمين في هذا الفصل هى أن المجتمع كائن حي، دائم النمو، لا يبقى تركيبه الطبقى على نفس الحال، فتعمل مختلف العوامل الاقتصادية والاجتماعية على نمو طبقة ما على حساب أخرى، وعلى انتقال فئات أو شرائح من طبقة إلى أخرى أعلى أو أدنى منها، لا بد إذن من أن نتوقع أن يتغير حجم الطبقة الوسطى وخصائصها مع الزمن، وهذا هو سبب ذلك التعبير الشائع «الطبقة الجديدة» الذى يقصد به في معظم الأحوال أن طبقة ما اكتسبت خصائص لم تكن لها من قبل، أو زاد حجمها ووزنها وتأثيرها عما كان.
أما الفصل الخاص بـ «التعصب الديني»، كأنه يتحدث عن أحداث قرية «دمشو هاشم» بالمنيا التى كانت في الأول من سبتمبر ٢٠١٨، فيتساءل: «ما الذى يجعل مجموعة من الناس تسير في الشوارع وهى تهتف بأن أفراد طائفة أخرى، مخالفة لها في الدين، هم (أعداء الله)؟ ثم يهاجمون دور العبادة لهذه الطائفة المخالفة فيشعلون فيها النار، ويبعثون الخوف في هؤلاء إلى درجة تدفع امرأة منهم إلى أن تلقى بنفسها من ارتفاع عشرة أمتار، أو أن يلقوا هم بها من هذا الارتفاع؟» هذه الأسئلة وغيرها في هذا الكتاب، والتى يطرحها جلال أمين منذ أكثر من عشرين عاما، لم نجد لها إجابات حتى الآن، كأن التاريخ وحركة المجتمع قد توقفا عند هذه اللحظة التاريخية قبل عشرين عاما.