الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أرواح عظيمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تلتق يوما بكافكا، تحاشت كل الطرق المؤدية إلى سعاله وخوفه اللذان لا يتوقفان ليلا أو نهارا.. لم يرق لها ضجره من الحياة، والكتابة، وهروبه الأبدي من اللقاءات الحميمة بميلينا، كما لم يرق لها محاولاته البائسة ليحظى بعطب في الذاكرة ربما يتعثر في السعادة.
كانت تتمنى أن تحتمل وطأة التنزه معه على الشاطئ ولو لساعة واحدة لتقول له" لا يمكن للإنسان أن يحيى دون ذكريات".
 نعرف أن الذكريات لا تخلو من الأسى، لكنه هو من قادك إلى "باولا" وربما هو نفسه ما قادنا إليك يا "ابنة الحظ "، ونعرف أيضا أن ذاكرتك موغلة في الألم لكنك رأيتها ضرورية لمواصلة الحياة التي لا تكون حقيقية إلا عندما تكتبين فصولها على مهل، فأنت تمارسين الكتابة لتواجه فصولك يا جميلة رياح النسيان.
ذاكرة كافكا أعيته، وخوفه من المغامرة، والسير أسفل قبعته في المساءات الكئيبة جعل من العالم مكانا ليس مناسبا للموت في رحمة الله، فهذا البائس المغرق في الوحدة والفزع لم يكن يطمح في أي شيء سوى مزيد من العزلة، إذ بدت له إرادة تغيير العالم عقيمة كما قال هنري ميلر. 
أما أنت يا إيزابيل فقد فهمتي أن أولى صفات الحب هي القوة لذا صارت حياتك بشكل مختلف.
أحببت ابنتك التي آلمك اصفرار شراشفها من صلف الألم، تصدع رأسها تحت وطأة مرض نادرا ما يحدث إلا للودعاء، لم يصب ذاكرتك بالتشقق، ومن رسائلك المطمئنة للجدة العاجزة عرفنا أن للفقد لدغة لا يبرأ منها إلا كل ذو روح عظيمة.. ومن له روح مثل روحك يا صاحبة "بيت الأرواح".
لم يحب "كافكا" الحياة لأنه رأي كل ما فيها مسوخا، أما أنت فمغرمة بالحياة لذا كل شيء صار لك ممكنا ولم لا وابن الرومي قال لنا من قبل أن "للقلب المغرم كل الأشياء ممكنة".
مآسي كافكا ضاعفت من سخطه وعزلته أما أنت يا عنيدة فقد علقتي على جدار غرفتك المقولة التي آمنت بها حتى النخاع: "عندما تمر بعذابات عظيمة في حياتك يصبح كل ألم إضافي من الأمور التافهة".
الكتابة بالنسبة لك يا إيزابيل تعني الحياة لذا لم تنشغلي بمن سيقرأ لك، وعبر سلسلة من الإرادات الصغيرة حققت نتائج كبيرة كما قال بودلير، وفي اللحظة التي عرفتِ معها معنى النفي والاغتراب رأيت أن حياتك بلا معنى ما لم تسجلي وقائعها بين دفتي كتاب، فبدأت العمل فورا غير عابئة بمصيرك ككاتبة اعتقادا منك يا ابنة الليندي بـمقولة بودلير "العمل الفوري وإن كان سيئا أفضل من التهويم".
تجاوزك الأربعين لم يمنعك من الحلم بالكتابة، النفي والغربة لم يسمحا لليأس بالفوت إلى قلبك الأخضر، كما لم يمثل انفصالك عن شريك حياتك الأولى أي عائق نفسي أو غيره لذا لم تعرفي مسكنات الألم لأنك لم تعيري مسبباتها أدنى اهتمام، بل على العكس تماما كنت ترددين كل آن ما قاله ماركوس في تأملاته:" لا تلتفت إلى الشخصيات السوداء عن يمينك وشمالك، بل أمض أمامك، سعيا في الطريق المستقيم، لا تنحرف عنه".