الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كيف تطيل عمرك؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
غادرتنا جدتي اليوم؛ الأشخاص في عائلتنا عادة يرحلون بعد المعاش بسنوات قليلة؛ لكن الجدة كسرت حيز الربع قرن بعد المعاش ورحلت عن عمر يناهز الـ 86 عام.
في روايته "حديث الصباح والمساء" سلط نجيب محفوظ الضوء على المشاهد الأخيرة من حياة مجموعة من أفراد عائلة امتد سلسالها من أيام الخديوي إسماعيل وحتى عهد الرئيس مبارك؛ وبعد سرد محفوظ لعشرات السير الذاتية لشخصيات الرواية تكتشف شيئا واحدا وهو أن أولئك الأشخاص يتحكمون في مدد أعمارهم لا يرحلون إلا بناء على قرار شخصي يحسم السياق الذي اختاروا العيش داخله منذ البداية؛ كانت اللعبة عنده لعبة سياقات قاعدتها تقول: "كلما أصبحت أكثر استقلالية عن المحيطين بك كلما هربت من متوسط الأعمار الخاص بعائلتك"؛ وأعتقد أن جدتي كانت واحدة من شخصيات محفوظ.
في قرية وديعة على ضفاف النيل شمال بني سويف تحفها حقول عباد الشمس اسمها كوم دريجة ولدت نادرة عيد تمام عام 1934 لعائلة ميسورة الحال تعتبر من مؤسسي القرية ومن مؤسسي عموديتها؛ لكن عالم "نادرة" الفسيح أخذت ملامحه في التشكل منذ زواجها من الصول عبد النبي سعيد –مواليد نفس قريتها- مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
شكل هذا الزواج منعطفا خطيرا في حياتها -على حسب روايتها- إذ لم يكن انتقالا على مستوى الحالة الاجتماعية من عزباء إلى متزوجة بل كان انتقالا أيضا على مستوى الطبقة الاجتماعية من طبقة برجوازية ريفية تنتمي لها إلى طبقة الزوج الذي يعمل في وظيفة ميري ويعتبر من محدودي الدخل.
في أغلب أحاديثها كانت تشير دائما إلى ذلك إلى جاه جدها وأبيها وأعمامها وأبناء عمومتها الذين تولوا وظائف مرموقة في الدولة؛ أعتقد هذا ما دفعها لبسط سيطرتها على أسرتها وتبؤ دور قيادي رئيسي داخلها وتأسيس عالم مستقل عن العالم؛ فانجبت عدد لا بأس به من البنات والبنين وأسست شعوبا فوق سطح منزلها من البط والأوز والدجاج والديكة والحمام قامت بأنسنتهم لدرجة تشعرك أنهم من ضمن أبنائها وبناتها أيضا فتقوم بإعداد الفطار والغداء للفريقين فريق البشر وفريق الطيور وتمضي طيلة اليوم في صراع مع القطط التي تتربص بدجاجاتها أو جيران الحي الذين يتربصون بأبنائها.
ذات مرة عارضها جدي في أمر ما كاد أن يفقد سيطرتها على إدارة الأمور فتمردت عليه بأن اختفت تماما؛ حينها قلبت البيت رأسا على عقب، فكل أفراد الأسرة فتشوا عنها في كل مكان في البلد فلم يجدوها؛ اختفت أسبوعا كاملا وتفاجئوا بعد مضي الأسبوع أنها كانت مختبئة في عشة الدجاج فوق سطح المنزل؛ صامت أسبوعا كاملا داخل العشة كنوع من التمرد على محاولة أن يفكر أحد في المساس بسياساتها وبالفعل تنازل جدي عن قراراته وعادت الأمور لطبيعتها.
عاشت طيلة حياتها تأكل بمقادير قريبة من التي تأكل بها طيورها وتمارس الصيام في الأزمات لذلك ظل جسدها عفيا حتى مماتها؛ تحت إدارتها صعب أن تنشب أية خلافات بين أفراد الأسرة أو بين أشقائها كانت حلالة مشكلات من طراز رفيع ونادر.
حياتها قابلة إلى أن تتلخص في 3 محطات رئيسية محطة الزواج التي بعدت فيها لأول مرة عن وادي النيل حيث موقع قريتها واتجهت غربا حيث حطت مع زوجها في مكان خدمته بمدينة أبشواي بالفيوم ثم انتقلت معه أيضا إلى مكان خدمة جديد بمدينة الواسطى ببني سويف في الستينات حيث أسست بيتا ظل نابضا بالحياة حتى مطلع الألفية الثالثة؛ المحطة الثانية هي قرار الإزالة الذي عصف بذلك البيت غريب الأطوار المبني بحجارة ضخمة كما حجارة القلاع ومصمم من الداخل بتكوين دائري وبالتالي انهارت عششها التاريخية وشعوب الطيور وعادت في نهاية المطاف إلى قريتها ليس لها شاغلة سوى استكمال نظرتها المجردة للإنسان في أن يتزوج وينجب ويعيش هنيئا فظلت تتتبع زواج أحفادها وبعد أن فقدت الأمل في مشاهدة بعضهم في حفل الزفاف بسبب أدمغتهم العنيدة مثلها شعرت أن لا شيء يربطها بالحياة؛ فالطيور قد طارت والزيجات معطلة وعائلتها البرجوازية تسرسبت فردا تلو الآخر فما كان شيء أمامها إلى أن تستسلم لعوالم الزهايمر اللانهائية (محطتها الأخيرة) حتى قرارها الذي اتخذته اليوم بالمغادرة؛ أعتقد -وفق نظرة محفوظ- لو لم يدمر نسيجها التي نسجتها من شعوب الطيور والبشر لكسرت حيز الـ 100 عام.
نحن الأحفاد أحببنا جيل الأجداد أكثر من جيل الآباء؛ هناك أشياء آثرة ميزت جيلهم أبرزها أنهم جيل مخضرم نشأ وترعرع في كنف مجتمع ثورة 19 مجتمع القوميين الجدد والاستقلال وهذا الجيل –بالتحديد بسطائه- كان لديه نزعة ما للتسامي مع بيئته وتعاطي الحياة بشكل حر وطبيعي لا توجد أية تيارات سياسية أو دينية تؤثر عليهم سوى قضية الاستقلال وهذا اتضح في أسمائهم؛ مثلا في قرية الجدة كانت توجد أسماء كسعد وسعدية، وفدي ووفدية ووطنية وحربية؛ معظمها أسماء لها معان قومية منها من كان متأثر بـ 19 وحكومة الوفد وعندما سموا أبنائهم لم يبعدوا عن نظرية المعاني تلك فسمت جدتي؛ مجدي وماجدة ونبيل ونبيلة وحمدي وعصام وأسامة؛ لكن جيل الآباء اختلف تماما فقد تمكنت منهم التيارات والخطابات الإعلامية التي سادت في مصر عقب قرارات الانفتاح فترى أسماء أبنائهم كالآتي؛ محمد، أحمد، أحمد، محمد، محمد، أحمد وهكذا على نفس الوتيرة لا تنوع وبها اقتراب من الرموز الدينية أكثر من اقترابها للمعاني كما اعتمد الأباء على خطاب موجه في إدارة حياتهم وحياتنا لا اعتماد على نظرة مستقلة للحياة كما كانت تفعل الجدة التي غادرتنا اليوم وتركت لنا رواية الأجيال مستمرة تقتطف من الموت والميلاد حديثا للصباح والمساء.