الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأغلال الخفية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أثناء زيارتى مؤخرًا لحديقة الحيوان، استوقفنى مشهد لافت للنظر، وقفت أمامه متأملًا: 
هذا الفيل شديد الضخامة، والذى يمتلك قوة هائلة، قوة قادرة على تحطيم ذلك القيد الذى يلتف حول قدمه الأمامية. إن الفيل رغم قوته الجبارة يقف فى دعة وهدوء وسكينة، دون أدنى محاولة من جانبه لتحطيم ذلك القيد الذى يُكبل حركته، ويصادر حريته، ويبقيه أسيرًا لا يملك من أمر نفسه شيئًا.
توجهت بكل ما يعتمل فى نفسى من حيرة واندهاش إلى مدير الحديقة، وهو صديق فاضل تربطنى به علاقة صداقة وطيدة وقديمة منذ أن نشأنا سويًا فى منطقة سكنية واحدة. توجهت إلى مكتبه فأحسن استقبالى، وبُحت له بما دار بخاطرى من تساؤلات: 
- ما الذى يحول بين الفيل وتحطيم أغلاله، إنه ليس محبوسًا فى أقفاص فولاذية شديدة الصلابة، ولا تقيد أقدامه سلاسل حديدية ضخمة، ومع ذلك، وهذا هو المثير للدهشة؛ يخضع الفيل لتلك القيود مذعنًا؛ رغم أن فى مقدوره تحطيم قيوده بيسر وسهولة إذا شاء ووقتما شاء؛ نظرًا لضخامة جسمه وقوة عضلاته؛ ولكنه لسبب ما لا يفعل ذلك!! 
ابتسم صديقى المدير، ونظر إلىّ نظرة الخبير العالِم ببواطن الأمور، وقال: 
- إن الجدَّ الأكبر لهذا الفيل حين تم اصطياده من إحدى غابات أفريقيا كان صغيرًا، شديد المِرَاسِ، شرسًا. لذلك تم وضعه فى الحديقة مقيدًا بقيد حديدى حال بينه وبين الإفلات، وظل يحاول مرات كثيرة تحطيم قيوده؛ ولكن محاولاته جميعها باءت بالفشل، استكان فى نهاية الأمر، واستسلم للأغلال، ولم يعاود محاولة تحطيمها، رغم نموه المطرد، وتزايد جسمه فى القوة والضخامة، لكن يبدو أنه قد ترسخت بداخله قناعة أو «عقيدة» بضرورة الخضوع للأغلال والاستسلام للأسر، وإنه لا طائل من محاولة الفكاك من الأغلال، لم تكن تلك الأغلال خارجية وحسب؛ بل استقرت بداخله أيضًا قيود أشد قوة وأكثر ضراوة. وهكذا أنجب هذا الفيل وخضع نسله لحياة الأسر داخل الحديقة التى خضع هو لها.
توجه إلىّ المدير مؤكدًا:
- إن الفيل الضخم الذى شاهدته يا صديقى بالحديقة، هو من نسل الفيل الجد، خضع لما خضع له السابقون، وظن أن من طبيعة الأفيال أن تعيش مقيدة بالسلاسل ممنوعة من الحركة، غافلًا عن حقيقة أن أفيال الغابات، تجرى وتمرح هناك بحرية كاملة، لأن هذه هى فطرة الله التى فطر عليها الأفيال. 
نحن فى حقيقة الأمر أشبه بأفيال حديقة الحيوان- إننى لا أعمم، وأرفض التعميم؛ ولكننى أتحدث عن الأغلبية الساحقة- نشأنا منذ نعومة أظافرنا فى ظل عادات وتقاليد وأفكار ومعتقدات لا نملك لها رفضًا، بل إن محاولة الرفض هذه غير واردة أصلًا، كيف نرفض ما نعتقد إنه الحق المبين؟! فأنت مثلًا إذا ذهبت إلى أحد السجون وتحاورت مع أحد القتلة الذين قاموا بالقتل أخذًا لثأر عائلى، ستجده يدافع عن جريمته بوصفها عملًا رائعًا، وحقًا مشروعًا. ولن يقتنع بكل ما تقدمه له من حجج وأدلة منطقية على بشاعة ما قام به من إزهاق نفس، بل قد تجده لا يتورع عن القيام بالفعل نفسه لو عاد به الزمن إلى الوراء، هكذا تربى ونشأ، ورضع أفكاره ومعتقداته وعاداته وتقاليده، على النحو نفسه الذى رضع به لبن الأم. قس على ذلك كثيرًا من الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد التى تعوق تقدمنا ورقينا، وتكبل حريتنا كبشر متحضرين.
لماذا نذهب بعيدًا ونأتى بأمثلة عن القتلة والمجرمين ونزلاء السجون، دعنا نتحدث عن المواطن العادى فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية. 
نحن منذ طفولتنا المبكرة، كنا محاصرين بالتنبيهات والإشارات والنصائح والأوامر والنواهى. من تلك النصائح والأوامر التى كانت تُوجه إلينا دومًا:
- «احترم الكبير» 
ولم يحرص من قام بتوجيه هذه النصيحة لنا أن يضع شرطًا بأن يكون هذا «الكبير» محترمًا ونزيهًا، بل المطلوب إطاعة الكبير بصورة مطلقة. حتى إن الآية القرآنية الكريمة: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (سورة النساء- آية 56)؛ قد فهمها الناس فى بلادنا على أنها تدعو إلى طاعة ولى الأمر وعدم مخالفته وعصيانه؛ أيًا كان شأنه صالحًا أو طالحًا. 
اللافت للنظر تفشى مبدأ الطاعة فى أغلب مناحى حياتنا، إذ نستجيب إلى أوامر المديرين والرؤساء، حتى وإن كنا على يقين من عدم صواب تلك الأوامر الموجهة إلينا. اعتدنا ذلك، وهذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا. والغريب فى الأمر إن المرؤوس الذى كان يحلو له دومًا الاستجابة لأوامر الرؤساء، رغم قناعته بعدم صوابها، ما إن يتول منصبًا كبيرًا؛ فإنه يسارع إلى ممارسة القهر والاستبداد على زملائه الذين كان بالأمس واحدًا منهم. أصبح الخضوع والخنوع، وتنفيذ الأوامر الصادرة إلينا جزءًا من تركيبنا النفسى، أو أقرب إلى الجينات الوراثية. وإذا استطردنا فى حديثنا عن الأغلال الظاهرة والخفية، فلن ننتهى. 
إنه حقًا حديثٌ ذو شجون.