الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تسييس المال.. وأخلاقيات المجتمع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعرف الكافة أن هناك ثلاث سلطات رئيسة في الدول الديمقراطية، هي التنفيذية والتشريعية والقضائية. والولوج إلى السلطات الثلاث بالطرق المشروعة مألوف ومعروف. وهناك طرق غير مشروعة للولوج، ومنها الواسطة والمحسوبية، ولكن يبقى تأثيرها محدودا من حيث النسبة المئوية في مجتمع تلك السلطات، إضافة إلى أن تلك السلطات تلفظ في غالب الأحيان وبمرور الزمن وتغير الظروف هؤلاء الذين دخلوها بطريق غير مشروع. أما الظاهرة التي كانت معروفة منذ زمن وتتم على استحياء أو تتم مع الإنكار من مرتكبيها، أصبحت في هذه الأيام تتم علنا بيانا عيانا وجهرا دون حياء ودون إنكار، بل أيضا أصبحت مصدر فخر وزهو وتفاخر لمرتكبيها. انها ظاهرة استخدام المال للوصول إلى عضوية السلطة التشريعية.
ومن اللافت للنظر، وكحقيقة واقعة، أن أي دراسة إحصائية بسيطة لن يستغرق إجراؤها غير سويعات بسيطة، ستبين أن كل من استخدم أسلوب تسييس المال للوصول إلى المجلس التشريعي، هم أناس لم يعرف عنهم أنهم رجال تربوا في حضن السياسة والخدمة العامة والانشغال بهموم الوطن، مثل مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وغيرهم، وإنما هم أناس عملوا في مجال البزنسة [أعتذر عن تعريب المصطلح] وأصبح لديهم مئات الملايين، فكان الولوج إلى السلطة التشريعية بمثابة السياج المطلوب للحصول على الوجاهة والحصانة وتسهيل قضاء المصالح.
وأدعو علماء الاجتماع في مصر إلى الإجابة عن السؤال التالي: بالفرض الجدلي أنه لم تكن هناك حصانة لعضو السلطة التشريعية، كم في المائة من أصحاب المال سيتسابقون لإنفاقه واستخدامه للوصول إلى مقعد في تلك السلطة؟
كنت أعرف رجلا حالفه الحظ وتم تعيينه عضوا في مجلس الشورى، في عصر الرئيس حسني مبارك. وكان الرجل صديقا لأحد رؤساء شركات الطيران ويحصل منه على تذاكر سفر مجانية بالدرجة الأولى. وكان الرجل دائم الزيارة لابنته المهاجرة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الرجل يطبع الكارت التعريفي به بأنه "سيناتور" وكان هذا الكارت يفتح له الأبواب المغلقة ويعطيه البريستيج اللازم في خارج الديار.
وعندما تمتلك المال والمقعد التشريعي، فإن الفائدة لن تعم في الداخل فقط، لكنها تعم أيضا في الخارج، وتستطيع أن تنمي أعمالك في الخارج، وأن تكون مصدر ثقة في التعامل مع الأجانب. أي أن تسييس المال كله فوائد.
ولا أنسى بعد ثورة يناير أن أحد الرجال وكان له تأثير انتخابي على الأصوات في محيطه الذي يعيش فيه، وكان قد تعرض لخسائر مالية فادحة قصمت ظهره، وعجز عن اجراء عملية جراحية دقيقة عالية التكاليف. وفجأة أجرى الرجل الجراحة في أحسن المستشفيات وأغلاها. وكان وراء ذلك مرشح في الانتخابات وزع الأموال لجمع الأصوات.
إن التخوف ليس في وصول من يملكون الأموال وتسييسها للوصول إلى المقاعد، فهم مهما فعلوا لن يغيروا من اتجاهات الدولة أو اتجاهات التشريع، لكن الخطورة تكمن في وضع أسس لفساد الأخلاقيات وتحطيم معايير الاختيار واكراه البعض على تغيير قناعاتهم، وسلب إرادة الناخبين، والنظر إلى تلك العملية الانتخابية على أنها سلعة تُباع وتُشترى، وتأصيل عزوف النسبة الغالبة من الشعب عن الإدلاء بصوته؛ لأنه لا يريد أن يوصمه أحد بأنه ذهب بمقابل للإدلاء بصوته.
لقد رأينا عمالا فقراء لا سيارة أو حتى موتوسيكلا عندهم ويركبون الدراجة ليطوفوا على ناخبيهم، ويشربون الشاي والقهوة على حساب الناخب الفقير، وأصبحوا أعضاء في المجالس النيابية، فهم معجونون بالسياسة [ زارني البدري فرغلي في مكتبي يوما وهو عضو في مجلس الشعب، ووجدت الجيب الجانبي في جاكتته منتفخا، وقبل أن يجلس أخرج ورقة جرنال ملفوف داخلها شقتين فول وطعمية، اشتراهما من على عربية فول بالشارع] وهو ما يثير التساؤل: لماذا ينتظر الشخص حتى يصبح صاحب أموال وفيرة، كي يسعى لمقعد في السلطة التشريعية؟ ولماذا لم يسع اليها وهو في مقتبل شبابه وعطائه ان كان حقا لا يبحث عن حصانة وانما يبحث عن خدمة الوطن؟
من سنوات طويلة، كنت في عزاء أحد الوجهاء في مصر الجديدة في دار مناسبات مسجد عمر بن عبد العزيز، ودخل رجل رافعا رأسه كالطاووس، ووجدت همهمات من المحيطين يقولون عنه، إنه يمتلك السيارة ملاكي القاهرة رقم [1] وعند انصرافي تصادف أن رأيته متجها لسيارته رقم [1] وبنفس طريقة رفع الرأس. ومرت السنون وأصبحت لوحة السيارات ذات الأرقام المميزة تباع بملايين الدولارات في بعض الدول. وأصبحت أرقام الموبيلات ذات الأرقام المميزة لها أسعار مختلفة، وأنا على يقين بأنه لا يوجد أحد في مصر يرغب في أن يصبح للحصانة سعر، أو تحولها إلى سلعة مكلفة.