الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إعادة الاعتبار للمعلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وافق مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير على مشروع قانون لتحسين أوضاع المعلمين بالتعليم العام والأزهرى، وذلك تنفيذًا لما طالب به الرئيس السيسي منذ عدة أيام بضرورة تخفيف المعاناة عن المعلمين وتحسين أوضاعهم تقديرا للمهمة السامية التي يقومون بها وهي تربية النشء. وأهمية هذه اللفتة تكمن في كونها تأتي في وقت شديد الصعوبة والوطأة على الاقتصاد بسبب جائحة كورونا. مع ذلك لم تتأخر الحكومة المصرية عن تخصيص بنود في الموازنة العامة للدولة لتنفيذ هذه السياسات لإصلاح أحوال المعلمين وإعادة الاعتبار لهم. ونعلم أن الاهتمام بالمعلم قد توقف وتجمد منذ سنوات بالإضافة إلى أن المدرسة لم تعد تحظى باهتمام أولياء الأمور نظرا لتفضيلهم "السناتر" والدروس الخصوصية، غير أن الدولة متنبهة لذلك وتصدت لحل هذه المشكلة وتسعى من خلال هذا المشروع للقضاء على هذه السلبيات.
وتضمنت الحزمة المالية لفائدة المدرسين زيادة 50% في "بدل المعلم" و50% في حافز الأداء و 25% في مكافأة المراقبة على امتحانات النقل من القيمة المقررة في يونيو الماضي، إضافة إلى 250 جنيها حافز إدارة مدرسية لكل مدير مدرسة أو معهد أزهري و150 جنيها للوكيل شهريًا. وتتراوح بذلك الزيادات الشهرية المقترحة للمعلمين من 325 جنيها للمعلم إلى 475 جنيها لكبير المعلمين بخلاف حافز الإدارة المدرسية. 
كما يتضمن مشروع القانون إنشاء صندوق للرعاية الاجتماعية والمالية للمعلمين بالمهن التعليمية ومعاونيهم بالتربية والتعليم والأزهر بدعم من الخزانة العامة قيمته نصف مليار جنيه. وتتكلف الحزمة المالية لصالح المدرسين ما قيمته 6.1 مليار جنيه تتحملها الخزانة العامة بخلاف الأعباء التأمينية.
وقد ظهر التجاوب والترحيب الواسع من طرف أكثر من مليوني مدرس معنيين بتلك القرارات، و ملايين آخرين من أفراد عائلاتهم، وقد لمسنا ذلك من خلال آلاف المحاولات للبحث عن تلك الإجراءات على محرك البحث جوجل ومن خلال الآراء التي تضمنتها مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة حيث اعتبر المدرسون هذه الخطوة ممتازة على طريق تقدير المعلم الذي أصبح في مرتبة متدنية للغاية على الرغم من الرسالة السامية التي يقدمها، كما أنهم وصفوها بالإشارة المهمة التي جاءت في وقتها ومحلها لتعكس اهتمام الدولة بالتعليم والمعلمين ونواياها الصادقة في المضي نحو إصلاح وتطوير المنظومة. 
ولا شك أن المعلم عندما يشعر بالرضا نتيجة اهتمام الدولة بوضعيته وأن يلمس هذا التحسن على أرض الواقع سواء على المستوى الفني المتعلق بتطوير المناهج أو الجانب المادي الخاص بزيادة الدخل فهذا من شأنه أن يكون حافزا له للتجويد في الأداء وأن يكون الدافع للتطور نابعا من داخله ومن حرصه على تحسين صورته الذهنية أمام تلاميذه وفي المجتمع بشكل عام.
وفي الوقت الذي تتجه فيه مصر إلى أن يكون الهدف من التعليم ليس فقط اكتساب التلاميذ للمعارف والمهارات وإنما أيضا بناء شخصيتهم ومساعدتهم على التنمية المستمرة لقدراتهم، يعتبر المعلم مفتاحا رئيسيا لتحقيق هذا الهدف؛ لذلك فإن تحسين وضعيته و العائد المالي من وظيفته وتهيئة المكان المناسب لعمله من شأنها أن تشعره بالرضا وهذا كله يصب في تحقيق الهدف المنشود من التعليم.
ولعل توقيت صدور القرارات كان موفقا للغاية تزامنا مع العودة المدرسية وما تضمنته من صعوبات نتيجة استمرار مخاطر زيادة العدوى من فيروس كورونا إضافة للقرار السابق بحظر الدروس الخصوصية وكيف جاءت الحزمة المالية لاحتواء المدرسين وإزالة شعورهم بالظلم نتيجة منع تلك الدروس التي تعوضهم عن تدني دخولهم. كما ساندت وزارة التربية والتعليم الحزمة المالية بقرار آخر مهم للغاية أشاع حالة من الرضا بين المدرسين وهو عمل دروس تقوية في المدارس على أن تُحصل رسوم الاشتراكات وتُوزع حصيلتها على المدرسين المشاركين طبقا للائحة مالية يتم وضعها فى هذا الشأن وتراعي ألا تقل نسبة مقابل الأداء للمعلمين عن 75% من إجمالي المتحصلات.
وتركز خطة وزارة التربية والتعليم حاليا على كيفية تفعيل دور المعلم وتطويره المهني بمفهوم أقرب لـ"كوتش"؛ لذا فإن تدريب المعلمين ومعرفة احتياجاتهم لتعلم استراتيجيات جديدة في التدريس كأولوية واكتسابهم مهارات التكنولوجيا حتى يستطيعوا من خلالها تأدية دورهم على أكمل وجه خاصة في ضوء ما نراه من أن التلاميذ أسرع من المعلمين في استخدام التكنولوجيا. كما أن المعلمين في المراحل الدراسية الأولى يحتاجون للتدريب أكثر من معلمي الصفوف الثانوية، حيث يتطلب الأمر أن يتعودوا على المناهج التي تعتمد على اللعب وهي الأكثر ملاءمة للتعليم المبكر لكنها الأصعب مقارنة بالتلقين والحفظ.
أخيرا، لا أخفيكم أني أجدني أتحدث بحماس عن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة المصرية لصالح الملايين من المعلمين وأسرهم.. ربما لكوني أسترجع من خلالها وهج الحب الذي كان يربطني بمدرستي في مدينتي الصغيرة بتونس. وهي حالة قد لا يستوعبها الكثيرون من التلاميذ حاليا. إنه نفس الشعور بالأمل عند بداية كل عام دراسي يفتح أمامي وأمام جيلي نوافذ ملهمة من التحقق. كنا محظوظين بمدرستنا ومدرسينا الذين كانوا ينفذون مهمة التعليم بوسائل بسيطة متاحة لديهم ليس بينها تكنولوجيا من أي نوع إلا الإبداع العقلي لطرقهم المبتكرة التي تستهوينا فنلعب ونرسم ونغني ونتعلم وتُحفر تلك المعارف حفرا في ذاكرتنا إلى الآن. وأطالع ما يتحدثون عنه هذه الأيام من مفاهيم تربوية لتطوير التعليم يطلقون عليها صفات التجديد إلا أني قد شاهدتها وخبرتها من مدرسين لا أنساهم أبدا بينما كنت أتعلم على يديهم في المراحل الابتدائية واللاحقة عليها.
وفي هذه الأيام ، أجد الخريف مليئًا بوعود من نفس سلالة تلك السنوات، تحمل في ثناياها حقبة جديدة من الطموحات لأجيال تحلم بالخير لها ولوطنها وتتعلم المبادرة والقيادة وتعديل السلوك ونقد الذات من مدرسين يستعيدون أدوارهم ويخلصون في أدائها. 
وقد لا يفاجئك معرفة أنني لم أكن في مدارس خاصة بل حكومية عرفت أيضا فقرا في الإمكانيات وتلاميذ فقراء كانوا يتلقون المساعدات ويأكلون من "الكانتين" وجبة اللإفطار المدعمة من المنظمات الدولية حيث كأس الحليب الدافىء والخبز وقطع الجبن؛ لكن لم نشعر بالتمييز بين فقير وغني كما لم نشاهد تنمرا أو معايرات!
وكنت طفلة ترفع يدها كثيرا لطرح سؤال على المعلم. وكنت محظوظة لأن معلمين موهوبين علموني قيمة طرح الأسئلة الصحيحة بالترتيب الصحيح قبل القفز إلى الاستنتاج. تعلمت أنه في حين أن طرح الأسئلة الصحيحة غالبًا ما يتطلب المزيد من الجهد على المدى القصير فإن النتائج تكون أكثر إرضاءً على المدى الطويل. هكذا كان يصنع المدرس درسه في الفصل من خلال توليد المعلومات والمعارف بفضل أسئلة التلاميذ وحواراتهم وما يبتكرونه من خلال الرسومات والمسرحيات والقصائد والفنون المختلفة. لا أنسى ما تعلمته من أساتذتي أن طرح السؤال أهم من الإجابة. منذ ذلك الحين أصبحت من المتحمسين والمطالبين بضرورة جمع المعرفة الكافية لاتخاذ قرار مناسب بدلاً من القفز فورًا إلى نتيجة (أو حل) يُقدم سهلا من الآخرين على طبق من فضة. مررت في محطات حياتي بالعديد من المعلمين والأساتذة العظام وقد تعلمت من العديد منهم مفهوما جديدا للتعلم وهو كيف يتعين علينا أن نقع في "حب المشكلة" وهذا ما يقودنا لفكرة جريئة ومبتكرة لحل مناسب لها! وأستحضر هنا ما قاله لي يوما في أحد الحوارات العالم التربوي العظيم الدكتور سيد عويس: " افتح النوافذ المغلقة أمام التلاميذ الصغار.. سيصبحون أصحاب أفكار مبتكرة. ولاتخف من أفكارهم الجريئة، فالجرأة هي شباب العقل!"
olfa@aucegypt.edu