الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. محمد سليم شوشة يكتب: حروب فاتنة.. القصة القصيرة غابة كثيفة تمزج الفكاهة بالمأساة؟

د. محمد سليم شوشة
د. محمد سليم شوشة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
(حروب فاتنة) هي مجموعة قصصية للقاص المصري المتميز حسن عبد الموجود، صادرة عن الكتب خان 2018، وهي في تقديرنا من النماذج القصصية المميزة على عدة مستويات، فهي تملك القدرة على إنتاج حمولات دلالية كثيفة إلى جانب قدرتها على التفاعل مع نوازع جمالية عدة لدى القارئ. هذه المجموعة القصصية تمثل كل قصة فيها بنية سردية تعمل بوصفها منظومة متكاملة ونسيجا بنيويا على قدر عال من التكامل بين وحداته، والحقيقة أن هذه الدقة تأتي في إطار قدر كبير من العفوية وغياب الافتعال تماما، فهذا السرد القصصي يتحرك في مساحة دقيقة جدا بين السرد الشفاهي بنبضه ودفئه الإنساني وحيويته وقدرته على التشويق والاستحواذ على المتلقي وبين السرد الكتابي بقدرته على تنظيم المحتوى السردي واللعب على الزمن واستثمار الفضاء السردي بقدر عال من المثالية الفنية كما يحدث في النحت أو التصوير. تملك هذه النصوص القصصية جميعا تقريبا على إنتاج الدهشة والقدرة على الإضحاك وتصوير حالات إنسانية نادرة وعلى قدر من الطرافة، وتحاول أن تذهب بعيدا مع تتبع الإنسان وفق وضعيات جديدة. حالات خاصة من الحب والرغبة والرغبة في التعذيب والعقاب والبحث عن الشريك ومحاولة التواصل مع المرأة بشكل مختلف وجديد. حالات جديدة من النضال والحب معا والوفاء للأم والأب وغيرها من المعاني الكثيرة التي تجسدها قصص المجموعة. في قصة (دراجة تعيد رفيق الحزب القديم) تتشكل عبر السرد قصة حب في غاية الطرافة والتشويق والقدرة على الاستحواذ على مشاعر القارئ ووجدانه وعقله معا. ذلك الرفيق اليساري الذي يشارك في حزب سري ويعمل معه، ويلتقي ضمن تكليفات الحزب ومهامه السرية بالمرأة التي لا يعرف اسمها الحقيقي كما هو نفسه له اسمان، وفي ظل هذه التكرارية الرتيبة تشعل مشاعر الحب الصامت بينهما الأحداث وتجعل القصة تتنامى وتتفرع تحت ضغط انفجارات مخيلة هذا الحبيب الذي يحاول أن يستنتج أو يتخيل بعض الصفات والاسم الحقيقي لحبيبته ويراهن نفسه على ما سيحدث منها أو الكيفية التي ستظهر بها أو أن حقيقتها غير المعلنة هي كذا وكذا. وهذه التخيلات تمنح السرد احتمالات يتحرك ناحيتها المتلقي ودروبا قد يرجح أحدها على الآخر أو يكون مشاركا في التنبؤ بحقيقة أحدها. ويفكر في مصير هذا الحب الغريب الذي ينبت في السر ويحتاج إلى الكتمان داخل الكتمان. حب ينبت تحت ظل هوية ملتبسة، ليكون الحب هنا مجردا من الأسماء والإشارات الدالة الأخرى على الثراء أو الفقر أو غيرها، وإن كانت الملابس في القصة يتم استثمارها بشكل دائم وليس في هذه القصة فقط لتكون دالة في إطار تشكيل الشخصية القصصية وبنائها، ولكن هذه الحال من الحب تبدو أقرب لتعلق روحي مجرد، فقط روحان ينتميان للفكرة نفسها أو يناضلان من وجهة نظرهما تحت لواء واحد فقط. وتأتي قصة أخرى عابرة عن زوجين ينتميان لعمل سري واحد ولا يعرف أحدهما عن الآخر شيئا إلا مصادفة بعد القبض عليهما، لتكون القصة الرئيسة هنا في إطار من واقع متكامل وسياق اجتماعي، والشخصية تمارس نوعا من الاستدعاء والتذكر لما يناظر حكايته أو يشبهها بحسب تخيلاته لنفسه مع حبيبته. ودون التطرق لبقية القصة فإنها تمضي على هذا النحو من تكامل الوحدات السردية وتفاعلها في منظومة واحدة تنتج الجماليات والمعنى حتى نهايتها، ولكن ثمة إشارة في عنوانها تحمل طابعا ساخرا، وهي الكامنة في الربط بين الدراجة وعودة الرفيق القديم، ليتجاوز العنوان قصة الحب الطريفة تماما مركزا على الدراجة بوصفها باعثا عابرا يحرك المتلقي نحو طبيعة هذه الدراجة، بما قد يكون فيها من المراوغة الدلالية النابعة من كونها وسيلة مواصلات وليست مجرد سبب أو دافع. في قصص أخرى تبقى قصة الحب متوهجة وسط علامات وإشارات أخرى تلعب أدوارا عدة مثل المناوشة أو الإعاقة وكلها تجعل قصة الحب هنا طريفة ومختلفة تماما وتتناسب مع اختلاف هذا السرد نفسه. قصة حب المدرس المصري الذي يعمل في اليمن وتسافر له زوجته هي قصة جديدة تماما وتتجاوز التقليدية، فهي أقرب لعشق يضطرم تحت الغياب والغربة، والبنية السردية وترتيب التفاصيل وفق كيفية خاصة تجعله يزداد اشتعالا، تمتزج فيه الرغبة بالإخلاص والتضحية، في إطار من تربص مدير المدرسة وإشاراته المتحرشة وهذا المكان القاسي الذي يحيل على قدر تضحية الزوجة بشكل خاص، وتأتي هيئة زوجها المصاب بالملاريا كرجل أصفر أو نبتة جافة ليزيد من هذا الاشتياق ويجعله أكثر قسوة فكأن الغربة ممتدة تحت هذه الحوائل. ثم أحداث الليلة التي يلدغ فيها المدير عقرب في موضع حساس يكشف عن قدر جرأة لغة السرد وقدرته على السخرية بأقل الإشارات أو العلامات الدالة مثلما نرى في لمحات الزوجة التي تتخيل المدير في أشكال معينة أو تتصور سببا آخر غير الذي أخبرهما به، والسخرية تمثل روحا عامة شفيفة وعلى قدر كبير من العفوية والسرعة، فكأن الموقف يجبر عليها وتبدو نابعة منه بشكل طبيعي دون افتعال. في القصة نفسها ثمة علامتان سرديتان يأتي حضورهما في غاية البراعة في الترتيب، الأولى الخاصة بحضور أول لطبيعة مصباح الكيروسين الذي يستخدم في الإضاءة وحين يتم إطفاؤه يشتعل من تلقاء نفسه مرة أخرى، ليأتي حضور آخر تال لهذا المصباح الذي يشتعل من تلقاء نفسه في إطار مشهد الحب الجامح بين الزوجين فيكون باعثا على الضحك وكأنه طرف ثالث في المشهد يتخذ قرارا ضد قرارهما أو يقرر فضحهما فيضحكان ويتجاهلانه. والعلامة الأخرى المرتبطة بطبيعة المكان وخطورة العقارب والثعابين فيه، التي تأتي تمهيدا لحادثة المدير، ومثلها في الحضور ذاته في مواضع متتالية تؤكد النسق ذاته ما يأتي في وصف بيوت القرية الجبلية التي لا يفتح أهلها أبوابها إلا في الصباح حتى لو انهارت قمة الجبل، ليكون حضورها التالي وتوظيفها المنطقي بعد ذلك في هذه الليلة التي يفقدون فيها الأمل في مساعدة أي من الجيران. وهكذا يصبح النص القصصي وفق هذا النظام السردي لتوزيع الإشارات والعلامات السردية منظومة متكاملة تتآزر وتتناغم مع بعضها في تشكيل عالم متسق ومتكامل، ويبدو هذا السرد على قدر على من الدقة وكأنه تمت كتابته بحسابات هندسية خاصة برغم أنه كما قلت سابقا يأتي في لغة متدفقة وعفوية كأنه سرد شفاهي تم تدوينه من أول مرة ولم تتم مراجعته أو استثمار حال الكتابة فيه مطلقا، وهذه هي المعادلة الصعبة، أن يبدو في جانب منه متدفقا وعفوية وبعيدا عن حسابات الفضاء السردي وتوزيعاته، وفي حانب آخر يبدو منظومة دقيقة محسوبة وهناك اشتغال معين على توزيع العلامات والأحداث.
المجموعة بالإضافة إلى هذه الدقة في توزيع علاماتها الدالة واستثمار الفضاء السردي على نحو مميز يمكن كذلك ملاحظة طابع سينمائي مشهدي يغلب عليها، فالقصص جميعها تقريبا تبدو أفلاما قصيرة مفعمة بالموسيقى أو الشعرية البصرية، فقصة (دراجة تعيد رفيق الحزب القديم) يمكن بترتيب مشاهدها ذاته أن تكون فيلما سينمائيا في غاية الشعرية مفعما بالسخرية والحنين والحب، ويستطيع المتلقي أن يعين كافة التفاصيل ويحس بكل مفردات المشهد أو يدرك كافة صفات الشخصيات وأشياء المكان وجغرافيته التي تتشعب برغم قصر القصة أو عدم ترهلها لتبدو أقرب إلى رواية من حيث اكتنازها لقدر كبير من الأحداث والأماكن، وهو الأمر الذي أفادته القصص كلها من المراوحة الدقيقة بين الإسهاب والتلخيص، بين التفصيل الممل أحيانا واللغة الشعرية الإجمالية التي تسوق أحداثا عدة في فقرة صغيرة، مثل الأماكن العديدة التي احتاج فيها توفيق لمقابلة مونيكا في أماكن كثيرة من القاهرة. وكذلك الأمر نفسه في قصة ليلة العقرب أو قصة ماء العقرب وتراب العذراء أو بقية القصص التي أجزم أنها كلها بمثابة مجموعة أفلام قصيرة متنوعة الطاقات، فهي قادرة على إثارة شجن المتلقي وإضحاكه أو العودة به إلى مناطق مجهولة من الأحداث والتاريخ والمواقف لتكون جمالية المعلومة الجديدة أو جمالية المعرفي حاضرة كذلك على نحو ما نرى في قصة معزة جوركي التي تطرح نموذجا غريبا وطريفا للأم في تعاملها مع التكنولوجيا وظنونها في توظيف الآخرين للموبايل للتجسس عليها وبخاصة جارتها الفضولية. ثمة كثير من المشاهدالعبثية المضحكة في المجموعة التي تمتزج فيها المعاناة بالضحك والسخرية، على نحو ما نرى في عبثية مشاهد قصة معزة جوركي التي تأكل الكتب ويرى الكاتب كتبه بعد ذلك وهذه العنزة تخرجها من معدتها وراءها بعدما استردها صاحبها، ولتبدو قصة البحث عن صاحب العنزة ومحاولة إعادتها أشبه بالمغامرة التي يحاول فيها بعض البشر إنقاذ طفل مفقود. القصص نادرا ما تصرح بأهم القيم الدلالية والمعاني التي ترمي إليها، فثمة نوعان من الدلالة ظاهرة مباشرة وأخرى كامنة أو مضمرة يمكن استنباطها من بين السطور، فكأن السرد بشكل دائم يهمس بصوت خفيض بالمعاني الأهم وبخاصة التي تتضمن السخرية أو العجب من هذه الأنماط الغريبة من الشخصيات والأحداث غير المتوقعة.
تبدو قصص المجموعة على قدر كبير من الثراء الجمالي الذي يجعلها لا ترتكز على مكون واحد، فليست فكرة الحب مثلا هنا هي مصدر الجمال، وليس كذلك غرابة المكان أو الصعوبات في قصة ليلة العقرب، وليست فكرة العنزة المفقودة هي كل ما في قصة معزة جوركي، وليست فكرة التلفت إلى الوراء والحنين إلى العمل القديم هي كل ما في قصة ضحكات التماسيح عند صاحب الجريدة ومؤسسها المسن الذي يعود للعمل متسللا ومتطفلا، وليست فكرة الأبراج ورسائلها التي تشتغل على كافة الشخصيات هي كل ما في قصة (ماء العقرب وتراب العذارء)، بل إن كل هذه القصص تتنوع فيها الجماليات وتصبح القصة أشبه بغابة مليئة بالمنعطفات والجيوب – إن جاز التعبير- التي يتوقع احتوائها على لمحة جمالية عابرة، وهذه الكثافة في تقديرنا نابعة من كثافة محتويات الذاكرة الساردة التي تبدو محملة بالكثير من الخبرات والمعلومات والحوادث، ولكون هذه الذاكرة الساردة تغوص بعيدا في الحياة الطبيعية/الحياة خارج السرد أو خارج الفن عموما، الحياة كما يعيشها الناس، وتنشغل بكافة مفرداتها ونماذجها وتنقب فيها تفكيرا وتأملا باستمرار. ويتم دمج كثير من الأفكار في بعضها لتنتج نصا قصصيا واحدا، فهذه القصص العشر كان يمكن في إطار تكنيكات سردية أخرى تفكيكها إلى عدد أكبر من القصص، لكن حسن عبد الموجود هنا يسعى لتكوين نصوص قصصية وفق كيفية خاصة به تجعل هناك مساحة معينة لا تقل عنها القصص وفي الوقت نفسه تبدو القصة أشبه بغابة كثيفة من الحكايات الصغير أو اللمحات الضيقة التي تحيط بالفكرة الأساسية أو التيمة الرئيسة لتخرج القصص على قدر كبير من التشابه مع طبيعة الحياة نفسها بتداخلها وتشعبها، وهو ما يجعل القصص تتجاوز بدرجة ما صراحة الخطاب ومباشرته إلى نمط فني يعمل على تغييب علامات الصنعة الفنية ودور الصانع أو صاحب الخطاب.
تتمثل المجموعة حالات إنسانية عدة من النوستالجيا والحنين أو حالات الاغتراب عن الواقع والزمن الحالي، وفي مراحل عمرية مختلفة، في قصتي (الغرف المنسية) و(ضحكات التماسيح) يتمثل السارد مشاعر المسنين بعدما هرب منهم الزمن ويحاولون استعادته عبر سلوكيات عدة، إما بتتبع الرائحة وذكريات الراحلين، وبخاصة الزوجة وتفاصيل العمل كما في (الغرف المنسية)، أو بالغرابة والسخرية والكذب والمقالب وافتعال الغرابة كما في (ضحكات التماسيح) فكأن الذات الإنسانية التي يسرد عنها حسن عبد الموجود هي دائما ما تحس هويتها في أفعال وسلوكيات بعينها، وأن غياب هذه الأفعال أو السلوكيات والأنشطة هو ما يعني طمس هويتها وموتها معنويا قبل أن تموت جسديا. ولهذا تبدو كثير من الشخصيات في حال من الأزمة وتحاول استعادة طبيعتها ويصبح لها رد فعل طريف حتى وإن بدت في بعض الأوقات مستسلمة.
الحقيقة أن هذه القصص على قدر كبير من الثراء بحيث يصبح أي جانب منها بحاجة – منفردا - لمساحة أكبر من الدرس والبحث، وعلى سبيل التمثيل موقف هذا السرد القصصي من تنوع تقنيات الراوي التي لا تبدو هنا عفوية أو منفصلة عن المنظومة السردية الدقيقة التي أشرت إليها، فهنا قدر من التنوع الذي يتناسب مع طبيعة الموضوع أو الفكرة، أو هي مواقع للراوي يصبح مضطرا لها بحكم الوعي بالبنية الفنية للقصة في شكلها الإجمالي، فكأن هناك حسبة ما تتم في العقل أولا ولو بلاوعي في عقل السارد قبل أن يشرع في التنفيذ على الورق.