الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

وجدي وصحافة الرأي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ظل مفكرنا طيلة حياته يحمل لواء المحافظين ويعتلي منبر الأزهريين ويناظر المستشرقين بمنطق العلماء، ويساجل المجترئين بحجة الفلاسفة والعقلاء ويسطر أبحاثة ومقالاته بقلم أفصح الأدباء هو الأستاذ "محمد فريد مصطفى وجدي على رشاد، الذي أجمع معاصروه على أنه فريد عصره في قدرته على التأليف بين الأضداد في سياق بديع مبتكر فقد ربط بين الأصالة والمعاصرة وفض النزاع بين الدين والعلم وكشف عن عالم الروح وأكد أن للحوار أخلاق وفن وللتناظر والتصاول أداب يجب الالتزام بها ودربة ودراية ينبغي عدم إهمالها.
فقد نشأ مفكرنا بالإسكندرية في كنف أسرة مصرية ترجع أصولها إلى أكابر العائلات الكردية وشب في بيت جمع بين رغد العيش وثراء الثقافة وتربية دينية وحس صوفي وحدس روحي، حفظ القرآن صغيرًا ثم ألحقه والده بالعديد من المدارس الابتدائية الخاصةــــــ العربية والأجنبيةـــــ ليجمع في صغره بين الثقافتين الشرقية والغربية وأتقن في صباه الفرنسية والتركية والتليد والنفيس من علوم اللغة العربية، وانتقل من الإسكندرية إلى دمياط إلى السويس ثم إلى القاهرة (1892م) ليلتحق بالمدرسة التوفيقية ومنها إلى مدرسة الحقوق ثم رغب عنها وفضل العمل في الصحافة.
وأدرك أن ميوله أقرب إلى الثقافة الموسوعية والدراسات الفلسفية تلك التي كانت ثمرة قراءته في مكتبة والده الزاخرة بمئات المؤلفات في شتى دروب الثقافة العربية والتركية والفرنسية، ذلك فضلًا عن الجلسات الحوارية التي كان يعقدها والده في دمياط لمناقشة قضايا الفكر والدين والسياسة مع أكابر أصحاب المنابر وقادة الرأي وأرباب الأقلام.
الأمر الذي جعله يرغب عن الدروس المتخصصة في حقل معرفي بعينه فشرع يكتب في الفلسفة والعلم والأدب والتاريخ والشريعة ومقارنة الأديان وعالم الروح والسياسة الغربية والمبادئ الشرعية الإسلامية، واشتهر بين معاصريه بالمحاور النابغة وشهد شيوخ عصره بنبوغه، وتنبأ الكثيرون برفعة مكانته في الفكر الإسلامي بعامة وميدان صحافة الرأي بخاصة.
وقد عبر عن ذلك بصرير قلمه الذي رددت أصداؤه العديد من الصحف والمجلات مثل اللواء والمؤيد والأهرام والمقتطف والحديث والهلال والبلاغ.
وفي عام (1899م) أسس "مجلة الحياة"، وقد عبر عن وجهتها ومقصدها منذ العدد الأول إذ جاء فيه أن هدفها الأساسي هو توضيح أن الإسلام هو روح العمران، وتوأم سعادة الإنسان، ويمكن تحقيق ذلك بثلاثة محاور:-
أولها: تعريف الأوروبيين بحقيقة الإسلام، وتوعية المسلمين بمحاسن الحضارة الغربية ومساوئها.
ثانيها: الحد من التقليد الجاهل لخبائث ونقائص الثقافة الغربية مثل تبني شبيبة المسلمين للمذاهب الغربية الهدامة حتى أصبح الكثيرون ممن يزعمون المدنية زورا يفتخرون بالتظاهر بالإلحاد على رؤوس الأشهاد ظنا منهم أن ذلك غاية غايات التقدم، قائلا: "إن هذا الدرب من التقليد الكاذب هو الذي هدم ركن الفضائل الشرقية العليا من أفئدة شبان المشرق وانتزع روح الكمالات الإسلامية من قلوبهم ألا إن هذا هو السيل الاجتماعي الذي أخذ يسري في جسم هيئتنا الاجتماعية حتى يخشى أن يتغلب على سائر الأعضاء ولو بعد حين، فيكون سببا رئيسيا في انقراضنا وتلاشينا وليس تلاشي الأمم الضالة عن الفضائل بالأمر البعيد".
ثالثها: تقديم الأدلة العلمية والبراهين العقلية على أن الديانة الإسلامية هي روح العمران وقوام سعادة الإنسان، وإثبات وجود الله تعالى والروح والآخرة بالأدلة الدامغة المعتمدة على تحقيقات العلماء العصريين جريا مع سنة الزمان مع تأييد أقاويلهم بالأدلة الفلسفية الحسية. 
أما مؤلفاته فقد جاءت ثمرة ناضجة لثقافة ذاتية واعية جمعت بين التليد والجديد والفلسفات المادية والنزاعات الروحية والنظريات العلمية والمصنفات الصوفية والمناهج التربوية وتواريخ الأمم وأدأب الشعوب الشرقية والغربية، ومن أوائل كتابته كتاب "الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان (1896م)، وكتاب (المدنية والإسلام) عام 1898م، وكتاب "الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية (1901م)".
وفي عام (1906م) رشحه "مصطفى كامل (1874م-1908م)" لتمثيل مصر في مؤتمر مقارنة الأديان الذي دعت إليه الحكومة اليابانية بعد استقلالها عن روسيا غير أنه اعتذر، وذهب الشيخ " على أحمد الجرجاوي (نحو ت1961م)" -عوضا عنه- وذلك على نفقته الخاصة وحضر أولى جلسات المؤتمر التي عقدت في أول مارس من نفس العام. أما "محمد فريد وجدي" فقد ألف كتيبًا بالفرنسية بعنوان "رسالة سفير الإسلام" وأرسله إلى إدارة المؤتمر ثم قام بترجمته لقراء العربية.
وفي (عام 1907م) أنشأ جريدة الدستور وهي المدرسة الأولى التي اجتذبت شبيبة الصحفيين، وكان ما يميزها عن غيرها وجهتها الجامعة بين الرؤى المحافظة في الدين والمنهج العقلي في نقد المعارف الوافدة، وكان مفكرنا يحرر معظم أبوابها.
أما وجهة المجلة السياسية فكانت أقرب إلى الحزب الوطني ويبدو ذلك في المعارك التي كانت تخوضها مع الأحزاب الأخرى مثل مجلتي "الأمة"، و"المؤيد"، وفي عام (1909م) أغلقت المجلة.
ويحدثنا عباس محمود العقاد عن أثر مدرسة جريدة الدستور في شبيبة المثقفين المصريين مؤكدا أن محمد فريد وجدي لم يكن أستاذًا لصحافة الرأي فحسب بل معلمًا أصيلا للتفكير الناقد وأدب الاختلاف وفن التحاور وعقلانية التناظر، ولم تكن دروسه في هذا الميدان نظرية أو خطابية، بل كانت ممارسة وتطبيق ويشهد بذلك كل تلاميذه من كتاب وخطباء وسياسيين، ويقول: "وقد كنت يوم اشتغلت بتحرير الدستور كاتبًا ناشئًا، خامل الذكر، ليس لي بحق الشهرة أن يكون لي رأي مستقل مسموع، ولكني كنت أخالفه (أي وجدي) في بعض آرائه، بل في بعض مبادئه السياسية وبعض معتقداته عما وراء المادة وتحضير الأرواح، وأشهر ما كان من ذلك حول موقف الحزب الوطني من «سعد زغلول»، فلم يمنعني ذلك أن أنشر في الدستور ما يخالف هذا الموقف، وأن أحادث «سعد زغلول» حديثًا ينفي كل ما يعزوه إليه كُتاب اللواء. وقد صارحته غاية الصراحة فيما كان يعتقده من تحضير الأرواح، وصارحني غاية الصراحة في أمر المتشابهات من العقائد والأحكام، فلا أذكر أنني لمحت منه عند أشد المخالفة نظرة غير نظرته حيث تقترب الأفكار والآراء".
أما عن أهداف جريدة الدستور فيحدثنا د. غريب جمعة مبينا أن رسالة مجلة الدستور لم تكن بوقا من أبواق الصحف الحزبية أو منبرا يروج لأيدولوجية بعينها وإنما هي صحيفة ثقافة وعلم، ولم تكن مقالات مؤسسها تعطي صورة السياسي المحترف بقدر ما تعطي صورته الأصلية:
أي صورة الفيلسوف والمصلح الاجتماعي الذي يشغله بناء فكر الأمة على نحو جديد يقوم على: العلم والدين والوطنية، لذلك كان موقف الرجل وصحيفته عجيبا وغريبا بين الجرائد والصحف في ذلك الوقت، وتحمل في سبيل مبادئه من الأثقال ما تنوء بحمله الجبال. وربما لم يعرف تاريخ الصحافة في مصر كاتبا يؤثر الحق على المنفعة الذاتية مهما كلفه ذلك من تضحيات حتى في أيام العسرة التي مرت بها الجريدة.
ومن الواقعات التي تؤكد نزاهة المفكر الصحفي والمعلم صاحب القلم العفيف الجريء أن حدث ذات يوم أن وجدي كتب في جريدته مؤيدا لرأي للسيد/ محمد توفيق البكري نقيب الأشراف خالف فيه الخديوي عباس حلمي، فقد عبر الأول عن سروره بهذا التأييد وأرسل لوجدي وجريدته مساعدة مالية ضخمه حيث كانت تعاني الجريدة آن ذاك من ضائقة مالية، فقام وجدي بردها ولم يقبلها شاكرًا لصنيع صاحبها وموضحا أن قلمه ليس له ثمن وأن رأيه لا يقصد من وراءه إلا الحق غير طامعًا في مكافأة أو ساكتا عن أمر أو رأي يرفضه أو ينقده. 
وخلال هذه الفترة أرسل إليه حزب تركيا الفتاة عارضا عليه تغيير شعار جريدته (لسان حالة الجامعة الإسلامية) إلى لسان حال حزب تركيا الفتاة وذلك مقابل إنقاذه من الديون التي كادت تكبل جريدته وتعرضها للإغلاق، فرفض مؤكدًا أن شعار مجلته يعبر عن الرسالة التي تحملها أقلام محرريها وأنها ليست بطبيعة الحالة خاضعة للمساومة، فكانت أزمة الأستاذ وجدي في مجال الصحافة أثرا من آثار المبدأ الذي لا ينحرف الرجل عنه قيد شعرة وهو الجهر بالرأي ولو خالف القوة والكثرة وخالف أحب الناس إليه، ولقد كان خلافه مع الحزب الوطني سببا رئيسا في كساد صحيفته فعجز عن النهوض بتكاليفها ولم يقبل أن يعوض الخسارة بمعونة مفروضة من جهات لا تتفق مع عقيدته فأوقفها.
وللحديث بقية