الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. يسري عبدالله يكتب: الأمل.. أول العالم

يسري عبدالله
يسري عبدالله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اعتبر بعض الفلاسفة الخير جزءا من بنية العالم، ومركزا له، وأن ثمة انتصارا دائما للخير على الشر، ولذا بدوا متفائلين على الدوام، ويمثل هذا الفريق على نحو بارز الفيلسوف الألماني فيلهلم ليبنتز، وفي المقابل اعتبر البعض الآخر أن التشاؤم أصل في رؤية العالم، لأننا بإزاء عالم ملئ بالشرور، وقد أشاع المفكر الفرنسي فولتير هذا المعنى كثيرا، وكلا الفريقين انطلق من يقين جاهز، وحمل أفكارا وتصورات سابقة التجهيز، ففي حالة ليبنتز، رأى أن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة، بينما بدا فولتير جازما وقاطعا في هيمنة الشر، وفي الضفة الثالثة وقف هيوم شاكا ومتسائلا بالأساس، ومرجئا الحكم على المسألة، حيث العالم لديه ليس مبنيا على غلبة الخير، ولا غلبة الشر، وربما كان الموقف لدى الفيلسوف الفذ فريدريك نيتشة أكثر اتساعا وعمقا، موجها خطابه إلى الإنسان الحر "لاتسرف في التفاؤل، فالتفاؤل سطحية، ولا تمضِ في التشاؤم فهو علامة الانحطاط، ولكن تتبع ولادة الأمل من رحم المأساة". 
لكن كيف يمكننا حراسة الأمل؟ كيف يمكننا أن نرعى هذا الزائر الجميل وسط العتامة؟، وكيف يمكننا أن نتتبع ولادته أيضا؟.
يبدو الأمل معنى بليغا عن قدرة الإنسان الفرد على مجاوزة واقعه، وعن قدرة الأمم على النهوض والتقدم، ولذا فلا أمل دون عمل، ولا أمل دون بناء، ولا أمل دون حرية للإنسان الفرد، وتماسك للمجتمع.
سنحرس الأمل حين يدرك كل منا دوره الحقيقي، ويكتشف قدراته الذاتية، وينميها، فبتنمية الإنسان الفرد ننمي الأمل داخله وداخل مجتمعاتنا، ولكي يدرك الإنسان ذاته، لا بد من تحرير وعيه، والأمل وتحرير الوعي الإنساني قيمتان مركزيتان في بناء الإنسان، فلا أمل دون وعي الفرد بذاته وبالعالم المحيط به، وقتها يمكن أن نتحدث بوثوق عن أننا نرعى الأمل حقا، فلا مجال للأفكار المتطرفة، والتصورات الرجعية عن العالم، وشرور التعصب والتمييز وسخافات الوعي الماضوي الملتصق بماضيه دائما، والمنفصل عن واقعه على الدوام. هذا الوعي البائس يقاوم حراسة الأمل، فيشيع أن ما كان خير مما هو قادم، وأن الماضي والقرون السابقة أفضل من الحاضر والقرون التالية، وتحاصرك هذه الأفكار في كل مكان، وبدلا من تنمية الوعي الفردي تحدث عملية تنميط للوعي الجمعي، وسجنه في خندق الماضي ومراراته وآلامه. ولذا ستجد التيارات المتطرفة وقوى الإسلام السياسي من أشد دعاة التشاؤم الآن، ليس لأنهم متشائمون بطبيعتهم، وليس لكونهم على خصام مع الحاضر والمستقبل فحسب، ولكن لأنهم بالأساس قابعين في الماضي، ومقدسين إياه، وإذا كان ثمة شيء يدعو للتشاؤم حقا فهو هذا الكم من الأفكار المتخلفة والدموية التي تحملها هذه الجماعات الظلامية، والتي باتت تحرس الهزيمة بامتياز، وتقاوم الأمل باستمرار، ويزيد الأمر تعقيدا تغلغل هذه الجماعات في بنية المجتمع المصري والعربي، وحضورها الخفي عبر صيغة التقية والمداراة داخل كثير من المؤسسات والهيئات الحكومية، وهذا يفسر لنا الكم الهائل من الشائعات المبثوثة ليلا ونهارا والتي تتداولها بعض المواقع الأليكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي بلا تدقيق، أما الأدهى حقا فيتمثل في لجوء تنظيمات الإسلام السياسي إلى شرعنة العنف عبر الاستناد إلى عشرات التصورات الظلامية المعتمدة على تصورات محبطة عن العالم، معادية للمجموع، وترى في نفسها وفي فكرتها الضيقة نجاة للبشرية، وفي الحقيقة أنها لم تكن سوى الوبال على العالم، والكارثة المحدقة دوما بعالمنا العربي وأمتنا المنكوبة بتزاوج الرجعية مع الفساد، والخاضعة لتحالف آخر بين قوى التطرف في الداخل وبعض القوى العالمية التي توظفها لصالحها، فضلا عن مخططات التقسيم التي كادت أن تسفر عن الخروج المادي من التاريخ، ولولا اليقظة المصرية واستعادة الروح وإرادة القوة لدى الدولة الوطنية لكنا أمام واقع آخر، يحكمه سيناريو التقسيم، وتفتيت الهوية الوطنية المتماسكة.

إن التشاؤم علامة انحطاط حقا، يلجأ إليه اليائسون والعابثون، ومردة العالم الجديد، يشيعون الإحباط العام، وينشرون القبح، في عالم يعج بالصراعات والفوضى والتحالفات المشبوهة، والرقص على أجساد الأمم التي تصارع الأوبئة، وقسوة الطبيعة، عالم ربما تحميه زهرة واحدة تتفتح، أو ضوء مصباح، أو نقطة النور في قلب الظلام أو قلب الظلمة، العنوان الدال للرواية الملهمة ( قلب الظلام) للروائي العالمي جوزيف كونراد.
ففي "قلب الظلام" بدا كل شيء على المحك، عالم ممتد من القسوة والعتامة، يقف فيه "مارلو" - البطل المركزي في رواية " قلب الظُّلمة"، والبحار العجوز الذي يصحب أعمال كونراد دائما -، على أعتاب المفارقة بين عالمين: أحدهما متحضر ومتقدم، والآخر همجي ومتخلف، غير أن هذه المفارقة الظاهرة كانت تخفي داخلها جوهرا استعماريا محضا، يمثله على نحو أكثر دقة "السيد "كورتز" تاجر العاج، والرامز إلى أسطورة التفوق النوعي المزعومة للرجل الأبيض، والذي يحمله مجموعات من العبيد في مشاهد دالة داخل الرواية عبر موكب تنفتح أمامه الطرق، وتتوقف المشاجرات الدائمة بين أبناء المكان، لقد أوقفنا جوزيف كونراد أمام عالم لا إنساني، تختصره الكلمات الأخيرة التي تأتي على لسان "كورتز": الرعب.. الرعب.. الرعب.
وأي رعب يواجه المجتمعات البشرية حين تفقد إنسانيتها! غير أن رعبا آخر ربما يواجه مجتمعاتنا العربية حين تتخلى عن قيمة العقل، لصالح الخرافة، وتجعل التفكير موضوعا للمساءلة.
ما الذي يجعل جماعة بشرية تحرز تقدما في المجالات المختلفة؟ وما الذي يدفع بأخرى إلى الهاوية؟ وما الحدود الفاصلة بين خطابات التقدم وخطابات التخلف؟!.
يملك العرب تراثا معرفيا خصبا، لكنه مشدود إلى الماضي، يبدو بطبيعته محكوما بالميتافيزيقا في جوانب عديدة منه، ويبدو في مواضع أخرى طارحا تصورا يقينيا عن العالم، مشغولا بالتكريس لما هو قائم؛ ولذا كانت محاولات خلخة هذه البنى المعرفية الراسخة تجابَه دائما بآليات شتى من التنكيل والمقاومة من أصحاب التصورات الرجعية، الموصولين بسياق يتسم بالتسليم بالموروث، والاستنامة إلى الإجابات الجاهزة، ووأد المشاريع الفكرية المستنيرة، والتي تقدم عطاء مختلفا في مسيرة الثقافة العربية، وبدا المفكرون العرب الحقيقيون أبناء لميراث يعادي إنتاج الأفكار الجديدة، ويجعل من التكفير سلاحا لمقاومة التفكير الخلاق، وبدت المحن المتواترة لمفكرين عديدين تنبيء عن سياق من العتامة والضحالة في آن، وكان ما حدث مع ابن رشد دليلا دامغا على أمة تزحف صوب الماضي، وتكره الأسئلة، والتأمل، والنظر البعيد للعالم والأشياء، فأحرقت كتب ابن رشد، وهيمن العقل السلفي المحافظ، وأشيعت مقولات أسبغ عليها البعض قداسة وهمية، من قبيل: "من تمنطق تزندق"، واستمر التراجع العربي منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وبدأنا ننتقل إلى عصر محاكم التفتيش، التي كانت احتكارا أوروبيا بامتياز حتى هذه الفترة، وكان من بين ضحاياها فيما بعد العالم الإيطالي جاليليو جاليلي الذي اتهمته محاكم التفتيش الرومانية سنة 1632 بالهرطقة، وحكم عليه بالسجن ثم خفف الحكم إلى الإقامة الجبرية في اليوم التالي، مع منعه من مناقشة الموضوعات التي أثارها، وأعلنت المحكمة بأن كتاباته ممنوعة، وإذا كان بعض المؤخين يعتقدون بأن محاكمة جاليليو كان لها الأثر الأكبر في انتقال الثورة العلمية فيما بعد إلى أوروبا الشمالية، فإن اللحظة التي أحرقت فيها مؤلفات ابن رشد كانت لحظة فارقة في عمر الثقافة العربية أيضا، ومثلت انعطافة تاريخية يؤرخ بها لما قبلها ولما بعدها، حيث سقط العقل العربي بعدها في فخ التقليد والجمود والاتباع.
يصبح الاحتماء بالعقل إذن سبيلا إلى المستقبل، وتصبح المعرفة طريقا إلى التقدم، ولا شك أن ثمة محنة يلقاها العقل العربي الآن، هذه المحنة لها جذورها التاريخية، ومسبباتها المعرفية التي لم تزل تقدس الماضي، وتجعله بديلا للراهن المعيش، وهذه المفارقة المؤسية هي التي تجعلنا أمام أمة تحيا بين عالمين متناقضين: أحدهما قديم ورجعي، والآخر حديث ومتقدم، واستمرار هذه الصيغة الرجراجة يعني استمرارا لحالة البين بين هذه، وتكريسا للوضع الحضاري المتأخر الذي نعيشه الآن، وبما يعني أن خطاب الماضي أكثر هيمنة في الفضاء العام من خطابات المستقبل. 
يبدو التنوير حدا فاصلا بين خطابات التقدم والتخلف، وتظل مراجعة الماضي العتيق بأفكاره ومظاهره مسألة حيوية لمغادرة سياقات باتت معطلة للسعي صوب الأمام، وحاكمة لحركة التفكير، ولذا تبقى المساءلة النقدية المستمرة حلا فكريا لمشاكلنا المتراكمة، إن التحولات التي مرت بها الأمم المختلفة للنهوض من كسلها العقلي، وتراجعها الحضاري، يعني أننا لن نخترع العجلة من جديد، وأن ما نحتاجه بحق يتمثل في إرادة حقيقية لمغادرة ما كان، والانتماء الفعلي لما هو كائن، بالانحياز إلى المعنى الذي يعنيه المستقبل ولا شيء سواه. وعبر هذا الوعي المعرفي، والفهم الإنساني المحض، الذي يؤمن بكل ما هو حر ونبيل وجميل وتقدمي، والقادم من قيم التسامح والتقدم، وتمثيلات التنوع الخلاق وبكارة العالم يمكننا أن نبدأ، حيث الحياة تصير حياة حين تحرس الأمل، ويحرسها الأمل، وحين تنير لا تظلم، وحين تكرس للجمال وتقاوم القبح، وتنحاز للمحبة وتواجه الكراهية بابتسامة طفل صغير أو صبية جميلة أو عجوز تهادن حركة الزمن.