السبت 08 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

برافدا جديدة.. صحافة وإعلام مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الصحافة والإعلام المصريان صارا تجسيدا لحالة من التناقض مع الشعارات الثورية المعلنة منذ عملية يناير 2011، إذ كثر اللغو البياني على خشبة مسرح يناير حول الديمقراطية وحرية التعبير والمجتمع المفتوح والشفافية، في كل التجليات التي أحاطت المشهد الرئيسي لعملية يناير تلك، وكانت الصحافة الخاصة والإعلام التجاري أكثر الوسائط المنهمكة – إلى حد المزايدة وربما إلى حد الابتذال – في تسويق تلك الشعارات والادعاء على الصحافة القومية والإعلام الرسمي بأنهما كانا سلاح النظام لضرب حرية التعبير، وتأميم وسائط التأثير لصالح توجهات النظام وسياساته، وبعد سنوات ثلاثة عشنا فيها حالة يناير بكل تداعياتها والتباساتها، نجد أنفسنا – الآن – أمام ضرورة مناقشة ملف الإعلام والصحافة المصريين، والتساؤل عما حققاه في إطار شعارات: "حرية التعبير" و"المجتمع المفتوح" وغيرهما، وهو ما أجمله في النقاط التالية:
• أولاً: في عام 1984 كنت أتمشى في ساعة عصاري على جسر "ووترلو" في لندن، والذي ينتهي بمكعب أسمنتي رمادي كبير هو مبنى المسرح القومي البريطاني، وعلى أكبر جدران المبنى وجدت ملصقاً "أفيش" مكتوباً فوقه عبارة "براڤدا" فظننت أنها مسرحية عن جريدة الحزب الشيوعي السوفيتي الذي لم يك قد سقط بعد، وقررت - بدافع الفضول والرغبة في التعرف على كل ما يتعلق بالمهنة – أن أبتاع بطاقة وأحضر عرض تلك المسرحية، فلما بدأ العرض وجدت أن حكاية المسرحية تدور حول الملياردير الأمريكي الاسترالي روبرت ميردوخ، وشرائه لصحيفة "تايمز" البريطانية العريقة، والتي ضمّ إليها – فيما بعد – عدداً كبيراً من الصحف ومحطات التليفزيون ليصوغ الشكل المدهش لإمبراطوريته الإعلامية، وتوالت مشاهد المسرحية تضغط على معنى متكرر هو الضبط والسيطرة الحديديين للمالك الفرد على العاملين في "تايمز" إلى آماد تفوق ما كان يحدث في الـ "براڤدا" نتيجة سيطرة الحزب الشيوعي السوفيتي على ملكيتها، يعني أخبرتنا تلك المسرحية الرائعة بأن حرية التعبير ليست – بالطبيعة والضرورة – نتيجة تلقائية للملكية الخاصة للصحف والفضائيات، ترتبط بها ارتباطا شرطيا، فإذا كانت الملكية خاصة لوسائط الصحافة والإعلام فإن مضمون ومادة تلك الوسائل ينبغيا أن يكونا حرّين، والعكس – طبعا – إذا كان الإعلام والصحافة ملكاً للدولة فهما يفتقدان الحرية ويقهران آراء العاملين فيهما، وهما يقيدان رسائلهما إلى الجمهور الذي يخاطبونه.
المسرحية أشارت – بإدانة صادمة – إلى زيف فكرة الاقتران الحتمي للإعلام الخاص والصحافة المستقلة بحرية التعبير والديمقراطية، وهكذا الأمر – بالضبط – في مصر، إذ لم تك الصحافة الخاصة - وجزء كبير منها تموّلت بدايته عبر مشروع الشراكة من أجل الديمقراطية الذي أطلقه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في معهد هيرتدچ بين 12 و14 ديسمبر 2002 - تخدم مصالح وطنية بالضرورة، وإنما كانت تلك الصحف والفضائيات الخاصة مملوكة لرهط من رجال الأعمال يعمل من أجل مصالحه وارتباطاته، ويسيطرون – بقبضات حديدية – على كل حرف ينشر ويبث في وسائلهم حتى أن حالات كثيرة من أولئك الملاك أثارت دهشتي، إذ يديرون شبكات عملاقة من المؤسسات الاقتصادية على نحو يفترض ألا يسمح لهم بتلك المتابعة اللصيقة لكل شاردة وواردة في وسائلهم الإعلامية، ولكن ما يحدث – على أية حال – ليس فقط لحماية المصالح الاقتصادية والخاصة لملاك وسائل الإعلام، وإنما لتنفيذ حزمة من السياسات بعضها كان لخدمة أهداف قوى دولية كبرى في مخططها لضرب مصر وتفكيك مؤسسات الدولة فيها.
• ثانياً: كان من الممكن التقليل من وزن مكون المؤامرة في نظرتنا إلى صحافة وإعلام مصر، لولا تلك الحملة الكاسحة والمتواصلة ضد الإعلام الحكومي والصحافة القومية التي استبقت عملية يناير 2011 بسنوات، والتي ارتكزت على "شيطنة" و"تنميط" الإعلام والصحافة الحكوميين، وخلق تيار من الوعي يعاديهما في المطلق، ويرفض رسائلهما تحت وهم أنهما ضد "حرية التعبير" و"المجتمع المفتوح".
كانت المؤامرة الإعلامية – إذا جاز التعبير - تعتمد على آليتين: إحداهما لضرب إعلام الحكومة، والأخرى لترويج الإعلام الخاص، ولم يك هذا انحيازاً لشكل من أشكال الملكية الاقتصادية، وإنما كان انحيازاً لطبيعة الرسائل التي يتم تحميلها على وسائل الإعلام الخاصة، واقتحام عقل المواطن المصري بها وتوجيهه إلى حيث تشاء، وهو ما كان جزءاً من عملية يناير سواء علم أصحابها أو لم يعلموا، سواء راهنوا على الولايات المتحدة الأمريكية وهم يعون حجم تورطها في المؤامرة، أو لم يدركوا وجود مؤامرة على الإطلاق.
والآن لا يوجد سوى الإعلام الخاص أو الجرائد المستقلة على الساحة، ولم يتبق من الإعلام الرسمي والصحافة الحكومية سوى بعض مسجى على شاطئ بحر المرحلة المتلاطم، كمثل أسماك ضخمة نافقة ألقتها الأمواج على الرمال، لتنتزع طيور البحر والنوارس قطعاً من أجسامها، وتشيع وتذيع في الهواء رائحة لحومها المتحللة.
الجرائد القومية والإعلام الرسمي، ارتبكت سياساتهما – تحت وطأة الهجوم والإدانة المتواصلين – وصارتا في وضع لا يمكنهما من التزام سياسات حماية الدولة، ومحددات أمنها القومي، كما لا يمكنهما من استيعاب حقيقة أهداف الإعلام الخاص والجرائد التجارية – التي تمتعت بالتعضيد والمديح بوصفها صنواً للحرية والمجتمع المفتوح، والتي نجح أصحابها في تصنيع ثقافة جديدة في مصر تحرض الجمهور على أن يرى فيها معنى الإعلام الحرّ، ويرى في غيرها شيطان القهر والتسلط، ومن ثم هرع الإعلام الرسمي إلى تقليد القنوات الخاصة بعد أن أصبحت في نظر الجمهور مثلاً أعلى يحتذى في الحرية والديمقراطية، ويتم تصوير ما تقدمه بوصفه بشارات لهذه الحرية أو تلك الديمقراطية.
وارتبكت سياسات الإعلام الرسمي والصحافة القومية – مرة أخرى – حين تعدّدت عمليات تغيير رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء القنوات الفضائية ورؤساء التحرير ومسؤولي الإدارات بطريقة مدهشة، وشهد كل تغيير إعادة بناء لسياسات التحرير، ورسم الصفحات "الماكيت" والتبويب، فضلاً عن صوغ البرامج "تليفزيونياً"، وهو الأمر الذي أضعف العلاقة بين وسائل الصحافة والإعلام الحكومية وبين القارئ والمشاهد الذي صار من الصعب عليه التعرف على الشخصية المهنية أو العلامة التجارية لأي من صحفه القومية أو قنواته الرسمية، ممّا لخبط أداء الصحافة القومية والإعلام الرسمي في مصر، تلك الاختراقات وعمليات التجنيد واسعة النطاق التي تمت للعاملين في تلك المؤسسات حتى امتلأت بالإخوان وعناصر 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين، على نحو دمر استقرار صيغ العمل فيها، وأخضع قياداتها لأشكال من الابتزاز الإداري والمهني شلّ قدراتهم على مجرد العمل، وأجبرهم على الانصياع إلى رغبات أعضاء تلك التشكيلات التنظيمية والسياسية، وبما جعل مؤسسات الإعلام الحكومي – تلك – تبدو كطائرات مختطفة ثبتت فيها تلك العناصر مسدساتها في رؤوس طياريها، وأجبرتهم على التوجه إلى نواح مغايرة لمساراتها ومقاصدها الأصلية والطبيعية.
• ثالثاً: كانت المرحلة الوحيدة التي التزم فيها الإعلام الخاص والصحافة الخاصة – بشكل صارم وكامل – محددات الأمن القومي، هي مرحلة المعركة الكبرى ضد نظام محمد مرسي، إذ أن تلك المعركة كانت – في جانب منها – دفاعاً عن مصالح أصحاب الجرائد والقنوات الذين تعرضوا لابتزاز إخواني كبير، وكانت دفاعاً عن النفس من جانب مذيعين تضمنتهم قوائم الاغتيال الإرهابية - رغم تملقهم للإخوان في بداية حكمهم - وكانت – أخيرا – معادلاً موضوعياً لشلل جهاز ماسبيرو ومؤسسات الصحافة القومية التي صادر الإخوان مقوماتها وفاعلياتها لصالحهم، بعدما أجهز المتآمرون عليها طوال مرحلة إعداد المسرح لعملية يناير 2011.
• رابعاً: ما يجري - الآن – في بعض الصحف المصرية "قومية أو خاصة"، وفي بعض القنوات التليفزيونية "رسمية أو تجارية"، هو إعادة تشكيل للسياسات وفرق العمل على نحو يقضي قضاء مبرماً على التعددية والتنوع الثقافي والسياسي - حتى لو كان في إطار واحد للوسيلة الإعلامية أو الصحفية - والآن أتابع نوع التعليمات التي يتلقاها إعلاميون وصحفيون حول ضرورة الانحياز – على نحو إطلاقي – إلى عملية يناير أو إلى ثورة يونيو، والتشكيلات المرتبطة بهذا المعسكر أو ذاك، أو الاتجاه إلى فرض تصورات معينة على العاملين في تلك الوسائل، سواء باعتبار يونيو "موجة" ثانية لـ "يناير"، أو اعتبار يونيو عملاً شعبياً مستقلاً تماماً، لا بل وتعريف دور الجيش في كل منهما على نحو مختلف تماماً، وتوخّي مصالح الملاك ووكالات الإعلان حتى لو كانوا غير مصريين.
صار منهج الواحدية المطلقة في الرأي والموقف هو الذي يتم إعداد وسائط الإعلام والصحافة – الآن – لتتبناه، وصار الجميع تجسيداً جديداً لـ "براڤدا"، يعمل فيه مئات الأولاد والبنات ممّن تتم صياغة أفكارهم وطرائق تعبيرهم على النحو الذي كان الحزب الشيوعي يفرضه، أو كان روبرت ميردوخ يجبر العاملين في إمبراطوريته الإعلامية عليه.