الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

أزمة أقباط أم أزمة وطن؟! (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تقرير “,”العطيفي“,”..
يتصادف نشر هذا المقال مع حلول عيد القيامة المجيد الذي تحتفل به مصر مع مواطنيها المسيحيين “,”الأقباط“,”، وهو غير بعيد عن ما يدور حوله سؤالنا: أزمة أقباط أم أزمة وطن؟ فمازالت الأصوات المفارقة للحن الوطن تحاول أن تقتحم المشهد وتفرض فحيحها وتبث سمومها متخفية بأقنعة تجاوزتها التجربة المصرية ولم تعد قادرة على خداع الشارع، مازالت هذه الأصوات تقول بحرمانية تهنئة الأقباط بأعيادهم التى تتعارض مع ما وقر في العقيدة الإسلامية، وهو تبرير قد نقبله في أروقة دور العبادة وعلى أرضية دينية، تأسيسًا على الإقرار بوجود اختلافات جوهرية في القضايا الإيمانية بين المسيحية والإسلام، وهو أمر مستقر في المفهوم الديني لدى المصريين وقد تعاملوا معه بأريحية وعبقرية مصرية عبر نحو ألف وأربعمائة عام، وحصروه في الدائرة الإيمانية، بينما تعايشوا معه وتجاوزوه في يومهم وحياتهم بدعم العيش المشترك ووحدة المصير بغطاء وطني لم يخلط بين “,”ما لله“,” و “,”ما لقيصر“,”.
وقد نقبل دعوة تحريم التهنئة ونتفهمها ـ بتحفظ ـ عندما يطلقها ويتبناها أحد من موقعه كداعية أو كونه واعظًا، خاصة عندما يكون موقعه في أقصى اليمين، لكننا لا يمكننا فهمها ومن ثم قبولها ممن انتقل إلى صفوف المتنفذين والسلطة الحاكمة، فهو هنا يخضع لقواعد العقد “,”الاجتماعي ـ السياسي“,” المبرم بيننا والذي يلزمه بأن يكون على مسافة واحدة من كل المواطنين وحقوقهم وما تفرضه عليه واجباته، ولا يصبح من حقه أن ينطلق في واجباته والتزاماته ـ التي تحتمها وضعيته الحاكمة ـ من منطلقات معتقده الديني وفق أبسط قواعد الحكم وإدارة الدولة طالما كانت دولة مدنية وليست دينية.
وليس بعيدًا عن هذا توقفنا عند “,”تقرير لجنة العطيفي“,” الذي أشرنا إليه كواحد من علامات الطريق البارزة في سياق الأزمة؛ وقد استقر في الأدبيات ذات الصلة الاحتفاء بهذا التقرير والتأسي عليه، وهو أمر يجب أن نراجعه موضوعيًا بعد أن صار مفارقًا للواقع الذي تجاوزه، ولم يعد هذا التقرير وتوصياته كافيًا أو فاعلاً في تفكيك الأزمة الحالة بيننا، وإن ظل نموذجًا لكشف كيفية إدارة الأزمات باختلاف الأنظمة، فقد وفر أدوات الحل بينما غابت الإرادة السياسية عند السلطة الحاكمة، فكان مصير التقرير الحفظ في أدراج أغلقت عليه وفقدنا مفاتيحها.
وقد شكلت هذه اللجنة برئاسة الدكتور جمال العطيفي وكيل مجلس الشعب حينذاك، وعضوية السادة أعضاء المجلس محمد فؤاد أبوهميلة، وألبرت برسوم سلامة، وكمال الشاذلي، والدكتور رشدي سعيد، وعبدالمنصف حسن زين، والمهندس محب إستينو.
جاء التقرير نموذجيًا في الإعداد والعمل الميداني والوصول إلى الأسباب، وفي وضع الحلول والمخارج التي تحقق تفكيكًا حقيقيًا للأزمة، فقد عرض في استهلاله لكيفية تشكيل اللجنة المكلفة بتقصي حقائق ما حدث بمدينة الخانكة التي شهدت أعمالاً تخريبية تحولت إلى اعتداءات ومصادمات وكانت مرشحة لتصعيد كارثي.
ثم كشف عن منهجيته في البحث والتقصي ورصد وتسجيل القراءات المختلفة من الفرقاء والمسئولين مدنيًا ودينيًا وشعبيًا، لينتقل الى تحليل مضمون المشاهدات والشهادات، ويستنبط الأسباب الحقيقية على الأرض المولدة حال بقائها لمزيد من التفجرات، وهو ما أكده زمن ما بعد التقرير وحتى لحظتنا.
ثم يطرح التقرير توصياته التي يراها مخرجًا حقيقيًا من أزمة ترقى لدرجة الكارثة.
ثمة ملاحظتان يرصدهما المتابع.. أولهما: أن أسباب تفجر الاعتداءات على الأقباط مازالت قائمة بل وزيدت، دون تعقب وعلاج وتجفيف لمصادرها ومنابعها، تبدأ بإطلاق قنابل دخان تروج لشائعات تنسب زورًا للكنيسة ورموزها تتحدث عن مخطط مسيحي لاستهداف الإسلام وتقويضه والعمل على استحواذ المسيحيين على مفاصل الدولة والترويج لوجود تسجيلات منسوبة للقيادات الكنسية في هذا الشأن ـ أضيف إليها فيما بعد الترويج لوجود أسلحة وذخيرة بأقبية ودهاليز سرية بالكنائس ـ الأمر الذي يستنفر المسلمين، خاصة في المناطق المهمشة أو العشوائية أو ذات الطبيعة المريفة.
وثاني الملاحظات: أن رقعة المتاعب التي يعانيها الأقباط وقتئذ ـ حسب التقرير ـ قد اتسعت عن نظيرتها وقت مؤتمر أسيوط 1910، وهي ملاحظة تتكرر تباعًا ومازلنا نلحظها بجلاء حتى يومنا، فقد أبان تقرير العطيفي أن المتاعب ومن ثم المطالب لم تعد مجرد إتاحة الفرصة للتوظف بحسب الكفاءة والمساواة وكفالة التمثيل بالمجالس النيابية لكل عنصر في الوطن، ـ حسب تعبير توصيات ذاك المؤتمرـ بعد أن قفزت أزمة بناء الكنائس الى صدارة المشهد.
تبدأ مع حادثة الخانكة، ظهور نسق اعتراض مواطنين من عامة الناس على وجود مكان للصلاة يخص المسيحيين بغير ترخيص، اقتناصًا لمهمة وعمل ودور الإدارة والحكومة، وترجمة هذا الاعتراض في صورة اعتداءات لإزالة المخالفة، في ظل تقاعس الأجهزة في كل الحالات ودون بحث جدي في أسباب اضطرار الأقباط لبناء دور عبادة دون ترخيص، والذي أرجعه تقرير العطيفي الى ما يعرف بشروط العزبي باشا ـ وكيل وزارة الداخلية ـ في شأن بناء الكنائس فبراير 1934، وهي شروط في أغلبها مجحفة وتعجيزية وغير منضبطة في صياغتها بما يفتح باب التأويل المتعسف على مصراعيه، ويورد التقرير مثالاً يؤكد ما ذهبنا إليه، متعلقًا بالشرط الذي يطلب إيراد “,”عدد أفراد الطائفة المذكورة الموجودين بهذه البلدة“,” فضلاً عن بطء الإجراءات من قبل الإدارة يقول التقرير “,”وقد تبينت اللجنة أنه من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الاحتكاك وإثارة الفرقة، عدم وضع نظام ميسر لتنظيم هذه التراخيص دون تطلب صدور قرار جمهوري في كل حالة وذلك إن استصدار هذا القرار يحتاج إلى وقت، وكثيرًا ما تتغير خلاله معالم المكان الذي أعد لإقامة الكنيسة، مثل أن يقام مسجد قريبًا منه يخل بالشروط العشرة، ونتيجة لبطء الإجراءات كثيرًا ما تلجأ بعض الجمعيات القبطية إلى إقامة هذه الكنائس دون ترخيص وفي بعض الحالات تتسامح جهه الإدارة في ذلك وفي حالات أخرى يجرى التحقيق مع مسئول الجمعية، وهو أمر بادي التناقض بين احترام سيادة القانون، من ناحية أخرى هو المبدأ الذي كفله الدستور في مادته “,”46“,” والذي جاء نصه مطلقًا وهو يجرى كالآتي: “,”تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية“,” وهو نص يغاير في صيغته ما كانت تنص عليه الدساتير السابقة من حماية حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في مصر، وفي ظل دستور سنة 1923 أصدرت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة حكمًا في 26 فبراير 1951 بأن إقامة الشعائر الدينية لكل الطوائف قد كفلها الدستور في حدود القوانين والعادات المرعية ولكنها ألغت قرارًا لوزارة الداخلية برفض الترخيص بإنشاء كنيسة وكان أساس الرفض قلة عدد أفراد الطائفة وقالت المحكمة في حكمها إنه “,”ليس في التعليمات نص يضع حدًا أدنى لعدد الأفراد الذين يحق لهم إقامة كنيسة“,”.
وإلى جوار إشكالية بناء الكنائس يضع التقرير يده مبكرًا على قضية الدعوة والتبشير، وهما مسميان لفعل واحد بحسب موقعه، فهو في الإسلام دعوة وفي المسيحية تبشير، ويكشف عن تناقض المجتمع والقانون ومن ثم الإدارة في التعامل معه بحسب موقعه، إذ بينما يدعم ويبارك ثلاثتهم الدعوة يتم تجريم وملاحقة ومعاقبة التبشير، وهو أمر بالغ الحساسية والدقة ويكشف عن أن حرية الاعتقاد مازالت غير قائمة رغم ما يقال في توافرها، ويكشف عن أن الدولة المدنية كما يعرفها العالم لا محل لها بيننا.
وربما يفسر ذلك اللجوء الى ممارسات خارج إطار حقوق الإنسان والقانون الدولي ومنظومة الحريات في صحيحها وكما خبرها العالم، بتبريرات مذهبية تؤكد أن الأزمة تتجاوز الأقباط الى الوطن، لأن التضييق على الحريات لا سقف ولا نهاية له.
وهو ما سنكتشفه في محطتنا القادمة مع تقرير “,”مريت عالي“,” المقدم للرئيس السادات في 1979 عقب انفجار جديد في سياق تصاعد أزمة الأقباط وأزمة الوطن.