الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رفقاً بالعقول

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من المسلَّم به علميًّا أنَّ الفتوى تتغيّر وتختلف بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنّيّات والعوائد، وهذا يفهم منه أنَّ الشيء قد يكون مباحًا في زمان، فيأخذ حكم الاستحباب في زمان مختلف، أو يكون واجبًا في زمان فيكون أوجب في غيره، أو يكون حرامًا في زمان فتشتدَّ حرمته في زمان آخر. وتغيُّر الأحكام وانتقالها يكون وفق ضوابط فصَّلها أهل العلم في مظانِّها من كتب الأصول.
وهذه المقدِّمة لازمة لما ينبغي أن نفهمه في إدارتنا لأزمة كورونا فيما سيأتي بعدُ.
وأحد أسباب نجاتنا من أزمة الفيروس -بعد ستر الله عزَّ وجلَّ- أن نُحسن إدارة هذه الأزمة؛ إذ يلزم أن نفهم أنَّ أزمنة الأوبئة والأمراض بيئة خصبة ليس لتفشِّي المرض والفيروس وحده، وإنَّما لتفشِّي ظواهر اجتماعيَّة وأخلاقيَّة لا تُقبَل في غيرها من الأزمنة.
ومن هذه الظَّواهر المنافية للأخلاق والمهدِّدة للمجتمعات الشَّائعات والأكاذيب والأراجيف.
وإذا كانت أزمنة الرَّخاء والسَّعة يَحرُم فيها الكذب والدَّجل والإرجاف والشَّائعات، فإنَّ أزمنة الأوبئة والأمراض والنَّوازل تزداد فيها الحرمة؛ لما تخلقه الشَّائعات والأكاذيب من خلل بين صفوف المجتمع، وزرع للضَّغينة بينهم، وتبديد للجهود، وإهدار للموارد، وإضعاف ثقة النَّاس في المؤسَّسات، في وقت يحتاج فيه الوطن إلى التفاف أبنائه حول الجهات المسئولة فيه، فضلًا عمَّا تسبِّبه الشَّائعات من مضاعفة الأزمة ذاتها، وخلق أزمات جديدة، إلى غير ذلك ممَّا يرصده علماء الاجتماع والنَّفس والاقتصاد المتخصِّصون.
وربما كان انتشار الشَّائعات في أزمة «كورونا» بسبب خوف الإنسان من الغيب أو المجهول، فالفيروس لا يُرى، ونتائجه مخيفة، والإنسان بمعامله وتجاربه وعلومه وتكنولوجيته لم يستطع إلى الآن مواجهته، فيقع الإنسان فريسة لغيب مخيف ينتهبه انتهابًا، فيندفع بقوَّة إلى قبول أيِّ أُكذوبة يعلِّق عليها نجاته -ولو لم يقبلها عقله ولا تفكيره المنطقيُّ.
وربما كان سبب انتشار الشَّائعات والأكاذيب عدم وضوح منهج إدارة الأزمات الَّذي تتبنَّاه المؤسَّسات والدُّول في إدارة شئونها، وضعف ثقافة الأفراد في التَّعامل مع الأزمات، فيندفعون إلى تلقِّي هذه الأكاذيب وتضخيمها ونشرها، حتَّى شاع بين النَّاس قولهم: «الغرقان يتعلَّق بقشَّة». 
والنَّاس يتناقلون هذا القول ويجعلونه مسوِّغًا ومبرِّرا لقبول الشَّائعات، وينظرون إلى الغريق على أنَّه في حال ضرورة ملجئة لا تدع له فرصة للتَّفكير فيما يتعلَّق به لينجو، حتَّى لو كان قشَّة لا تحمي من الغرق.
لكن – ومن باب إحياء الأمل في قلوب النَّاس- ألا يمكن أن يكون معنى المقولة: إنَّ الإنسان لا بدَّ له من اصطحاب الأمل معه في مسيرة حياته، حتَّى لو كان في أحلك ظروفه، وأنَّه مهما أحاطت به الكروب واشتدَّت الظُّلمات فلا بدَّ من بارقة نور يتعلَّق به ويؤمِّل فيه؟!
في رأيي، إنَّ هذا هو المعنى الَّذي ينبغي أن يصحَّ في أذهان النَّاس.
وإذا كنَّا نؤكِّد أهميَّة الأمل والتَّفاؤل، فإنَّنا –وبالقدر نفسه، وربَّما أكثر- نؤكِّد ضرورة إعمال العقل، فلا نتعلَّق بقشَّة ضعيفة لا تغني في أزمة قويَّة. وهنا تظهر حكاية «الغرقى والقشِّ»، وما أكثر الغرقى في أزمنة البلاء! وما أكثر القشَّ أيضًا! 
لما داهمنا هذا الفيروس سارع بعض النَّاس إلى استدعاء حكاية سمعتُها في طفولتي منذ سنين طويلة، وأظنُّ القرَّاء سمعوها كذلك منذ سنوات، وها هي تطلُّ برأسها مرَّة أخرى، وهي وجود شعرة من شعر النَّبيِّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- في المصحف الشَّريف في موضع خاصٍّ، ربَّما يكون سورة البقرة أو سورة يس أو غير ذلك، وأنَّ هذه الشَّعرة المباركة تشفي من الفيروسات، بعد نقعها في كوب ماء وشُربه على الرِّيق!
لقد حكى النَّاس قصَّة الشَّعرة المباركة، وبالغ بعضهم فأقسم بأغلظ الأيمان أنَّه رآها بعينه في مصحفه، وكثرت فيها الرِّوايات، وزادت فيها الإضافات حتَّى صارت أسطورة الشَّعرة!
وأنا لا أقتل الأمل في نفوس النَّاس، فالأمل باب العمل.
ولا أعيب تعلُّق النَّاس برسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- فحبُّه والتعلُّق به باب فرج كبير.
ولا أقلِّل من أثر من آثار النَّبيِّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- ووالله لو أدركنا شيئًا من آثاره لدلكنا به وجوهنا وأبشارنا، ولكان أحبَّ إلينا من كلِّ شيء. ولم لا وقد ورد في صحيح البخاريِّ –رحمه الله- أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم- خرج على أصحابه بالهاجرة، فأُتي بوَضوء فتوضَّأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه، فيتمسَّحون به.
ولكنِّي أدعو النَّاس إلى التَّفكير، كما دعاهم النَّبيُّ محمَّد –صلَّى الله عليه وسلَّم، فنتعلَّق بالنَّبيِّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- وبآثاره وبمنهجه في آن واحد. وليكن النَّاس عقلاء في زمن الأزمات الَّتي تحتاج إلى العقل والتَّفكير المنضبط مع الإيمان لنتغلَّب عليها، ونحسن إدارتها.
ولست أدري لماذا يقف النَّاس عند شعرة من شعر النَّبيِّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- مع تمنِّينا لوجودها بيننا، ولا يقفون عند شعوره وهو يبني أمَّة يحسُّ فيها بحاجات النَّاس، وقدراتهم، وطاقاتهم، ويخطِّط لحاضرهم ومستقبلهم؟
ولماذا ينتظرون أن يفتحوا المصحف فيجدوا فيه الشَّعرة المباركة الشَّافية، فيقلِّبون صفحاته بحثًا عنها، دون أن يلتفتوا إلى آياته ومعانيها وما فيها من نور الوحي؟
ولماذا يربط النَّاس بين شعره ومصحفه، ولا يربطون بين الأسباب ومسبَّباتها الَّتي جعلها الله سننًا كونيَّة لا تتخلَّف عند أحد من النَّاس آمن أو كفر؟
أُومنُ أنَّ الله على كلِّ شيء قدير، وأُقرُّ أنَّ الإيمان به –سبحانه- باب نجاة وخير، ولكن من الإيمان بالله أن نعلم أنَّه لا يفضِّل الأمَّة لمجرد الادِّعاء، ولا يرزقها بالكسل العقليِّ والعضليِّ، ولا يرفع البلاء عنها بالمجاملة.
إنَّ من أخطر ما يصاب به مجتمع أن يتناقل أبناؤه الشَّائعات، فيقتاتونها كما يقتاتون الطعام، ويعيشون عليها، ويعلِّقون عليها النَّجاة، بدلًا من اللُّجوء إلى العلم الَّذي احترمه الدِّين وطالب به الأمَّة. 
ونسأل الله –تعالى- أن يرزقنا حبَّه وحبَّ نبيِّه –صلَّى الله عليه وسلَّم- على الوجه الَّذي نحقِّق به خيريَّة الأمَّة كما أرادها ربُّها.