الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

أوروبا اليوم.. صراع جديد بين العلمانية وعودة القوى الدينية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ظهرت العلاقة بين الدين والدولة في أوروبا على الدوام كنموذج يُحتذى به عند المثقفين التنويريين من العلمانيين العرب، ويُبشِر العلمانيون العرب بأوروبا العلمانية ك«يوتوبيا» للشكل الذى يجب أن تأخذه العلاقة بين الدين والدولة. ورغم النجاح الذى حققته أوروبا في تحييد الدين عن الحياة السياسية بدرجة لا تخطئها عين، خاصة في ستينات القرن الماضي، لكن مع ذلك فلا يؤخذ الأمر على عناته، فالعلاقة جد معقدة ومتوترة في غالب الأحيان.

ومع توالى الشواهد التى تشى بدور يبرز للدين في الحياة العامة الأوربية، يدعونا هذا إلى إعادة النظر في هذه العلاقة في واقع أوروبا اليوم، ومن ثم الاستفادة من إدارة أوروبا لهذه العلاقة المتوترة سلبًا أو إيجابًا، في حالتنا العربية. ويلزمنا النظر بروية وشك أحيانًا أمام ما يقدمه مثقفونا من تحليلات لحركة العلمنة الأوروبية، والتى للمفارقة تضع العلمانية أمامنا كمُسلمة متحققة في الواقع الأوروبى ولا تقبل التشكيك فيها، رغم أنها نفسها المسلمة التى يتلاسن بشأنها مفكرو الغرب اليوم ويخوضون من أجلها معارك فكرية عديدة، لذا لا بد أن نطرح ما يمكن أن يسهم على الأقل في زحزحة هذه المقولة المُسبقة عن وجود وتحقق علمانية أوروبية نقية، إذ نجادل بأن أوروبا لا تعرف علمانية نقية أو لا، ولا تعرف علمانية واحدة بل علمانيات متعددة ثانيًا.


الزحف المقدس للدولة

لسنوات عديدة ظلت الكنيسة هى المهيمن الأول على الحياة الأوربية بكافة أشكالها، حتى حدث تحول جوهرى مع صلح وستفاليا في اتجاه فصل الدين عن الدولة، لكن في الحقيقة لم يكن ما حدث اتجاها للفصل والتحييد كما يؤرخ كثيرون وفقط، بل اقترن بهذا التحييد «تأميم للدين» لصالح الدولة. وعلى الجُملة يمكن القول أن حركة العلمنة كانت في محصلتها النهائية تعبيرًا عن انكسار المعادلة التاريخية التقليدية القائمة على الكنيسة المستحوذة على الدولة لصالح معادلة جديدة تحتل فيها الدولة اليد العليا فوق الكنيسة.

 

الزحف المقدس للدين

ويسير الاتجاه العالمى لمسار التطورات الاجتماعية والسياسية، نحو تأكيد عودة دور الدين بشكل متصاعد في الحياة العامة بكافة تجلياتها. لقد وصلت العلمانية عالميًا إلى ذروة غير مسبوقة في ستينيات القرن العشرين؛ غير أن الاتجاه نحو التدين أخذ يعود بدرجات متفاوتة في الكثير من مناطق العالم.

وهو تدين لم ينحصر فيما عُرف بـ«الصحوة الإسلامية» التى اجتاحت مناطق واسعة من العالم الإسلامى منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكنه اتسع ليعبِر عن نفسه بأشكال مختلفة في أوساط المسيحيين وأتباع الديانات المختلفة. وفى السنوات الماضية، أخذ هذا الاتجاه يتزايد اجتماعيًا وسياسيًا في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها.

 

ففى أوروبا اليوم ثمة زحف مقابل يقوم به الدين، فيما يمثلُ قطيعة مع مسار تاريخى ممتد كانت فيه الدولة هى المتوغلة على حساب الدين، تعيش أوروبا اليوم مدًا عكسيًا فيه يعود الدين ليلعب دورًا محوريًا ليس في سياستها الداخلية وفقط، بل على مستوى صناعة السياسة الخارجية أيضًا.

 

والبعض قد يجادل بأن أوروبا قد قطعت علاقتها بالدين بشكل بات لا يقبل التشكيك فيه، لكن هؤلاء يتخيلون نمطًا واحدًا لوجود الدين في الحياة العامة والسياسية، إذ يوجدون ملازمة بين دور الكنيسة في أوروبا القروسطية، وبين دور الدين الآن، وكأن هذا هو الشكل والتمثلُ الوحيد الذى يمكن للدين أن يلعبه في الحياة العامة، لكن على الحقيقة فإن الكنيسة تعود في عالم اليوم وبقوة، قد يختلف الشكل لكن يظل الهدف واحدا وهو التأثير في صناعة القرار بغرض تحقيق مكاسب محددة.

فاتجاه الكنيسة لمسارات تنموية وخيرية وروحية لا يمكن تسكينه فقط في باب تهميشها الذى يؤدى بها إلى التركيز على الساحات التى تبدو هامشية وغير مؤثرة.

وما فعلته الكنيسة في عقودها الأخيرة يمكن تأويله بشكل أعمق من ذلك، إذ إنه يمثل فهما عميقا من الكنيسة والمؤسسة الدينية في أوروبا للمعادلة السياسية الجديدة التى طرحتها حركة العلمنة على مدى عقود، فالكنيسة اليوم تتسابق في تقديم الخدمات الصحية والمساعدات الاقتصادية أو المرتبطة بشبكات التضامن الاجتماعي كمحاولة لتعويض المساحة التى انسحبت فيها مؤسسات الدولة لصالح المؤسسات الرأسمالية.

لذا فإن كل أرض تخسرها الدولة وتتركها للمجتمع المدنى فإن الكنيسة تكسب منها جزءًا كبيرًا، وهى معادلة متفق عليها بشكل من الأشكال في معظم نماذج المواءمة الأوربية للعلمنة، لذا فليس من الغريب أن يخرج علينا البنك الدولى في أكثر من مناسبة لإشارة إلى أهمية دور المؤسسات الدينية في عملية التنمية ومحاربة الفقر، وهو ما يؤكد على تبدل الأدوار التى يلعبها الدين بتغير السياق وأدوات اللعبة.

للزحف المقدس أشكال أخرى عديدة ربما لا يتسع المجال هنا لدراستها بشكل معمق، فصعود اليمين الأوربى اليوم يمثل في جزء كبير منه استعادة للدين في الحياة السياسية، فاليمين ينطلق من مخاوف هوياتية على مسيحية أوروبا التى يهددها كما يرى جل رجالات اليمين انتشار الدين الإسلامى في العديد من دول أوروبا خاصة فرنسا وبلجيكا.

فالأوربيون يشعرون اليوم أكثر من أى وقت مضى بهذا التهديد الناعم للهوية الأوربية، فقد شهدت أوروبا منذ ستينيات القرن الماضى تحولات كبيرة قطعت بشكل كبير مع التاريخ المسيحى للقارة العجوز.

وفى زمن انهيار الإرث المسيحي، يبرز الإسلام كقوة دينية يصنفها بعض الأوروبيين تهديدًا لما تبقى من هويتهم المسيحية، وإرثها الذى فقد كثيرًا من بريقه.

ويرى البعض أن هذه المخاوف على مسيحية أوروبا قد تنعكس مستقبلً على شكل ارتداد عكسى للمسيحية احتمًاء بها، وكفعل قد يكون في جزء منه لا شعورى أمام الخوف من هذا التهديد الهوياتي.

وتأكيدًا على فكرة عودة الدين يذكر الفيلسوف الفرنسى ريمى براج، في سياق لقاء أجرته معه جريدة «لوفيجارو» الفرنسية: «أن الدين لم يذهب دون رجعة، كما نعتقد خاطئين، وعودته مؤكدة في مرحلة، وبقوة أكثر. وهنا لا بد من استعمال الكلمات الصحيحة، لا بد من مشروع فكرى للتمييز بين ما يذهب ولا يعود، بل ويُدفن في ظلمة الزمن، وبين ما يذهب ويختبئ ثم يفاجئنا بعودة أقوى وأكثر رسوخًا، كما هو حال الدين».

علمانيات أوروبا المتعددة في أوروبا لا يمكن أبدًا الحديث عن علمانية واحدة، بل عن علمانيات متعددة، فلدينا العلمانية الفرنسية ذات الخصوصية الفريدة كواحدة من أشد النماذج العلمانية حدية في الفصل بين الدين والدولة، فهى نموذج ثقيل لا ينحو فقط نحو فصل ما هو سياسى زمنى عما هو دينى متجاوز، بل إلى فصل الدين عن كل مناحى الحياة وفى كل تقاطعاتها.

فلا تكتفى الدولة في هذه الحالة بفصل الدين عن السياسة بل تعمل على اجترار الدين من الثقافة العامة ومؤسسات الدولة ومناهج التعليم، وتجُرم وتمنع ظهوره في الفضاء العام كممارسات جماعية، لذا فهى تعيد الدين إلى فضاء الكنيسة ودُور العبادة بشكل عام، والعمل على تنقية مؤسسات الدولة والتوجهات العامة من أى طابع دينى قد تتسم به.

ولدينا علمانية ألمانية تميل إلى الاعتدال والربط بين الدين والدولة في علاقة متناغمة تحقق للطرفين الكثير من المصالح، إذ نرى قدرًا من الفصل المعتدل بين الدين والدولة، فلا نرى تدخلً من الدولة للهيمنة على المؤسسة الدينية والكنسية، وإن كان هذا الأمر سيظل نسبيًا إذا سلمنا بقاعدة أن العلمانية منذ النشأة الأوربية كانت تأسيسًا لهيمنة الدولة على الدين.

لدينا أيضًا العلمانية البريطانية، وهى النموذج الأشد ربطًا بين الدين والدولة، إذ يتيح النظام الملكى نوعًا من الامتياز الخاص للكنيسة الانجليكانية، ولا تتردد هذه الأخيرة في إسناد الملكية بطقوسها ورمزياتها الدينية، لذا فبريطانيا على الضد من فرنسا الجارة تمثل أنموذجًا فريدًا في الربط بين الكنيسة والدولة، ولها كنيستها الرسمية التى يُجمع عليها البريطانيون، وترأسها الملكة، ولها تمثيلها المعتبر في مجلس اللوردات بعدد 26 من الأعضاء المعينين.


هل العلمانية عالمية؟

إذا كنا نتحدث عن علمانيات أوربية متعددة، وأشكالً متباينة من العلاقة بين الدين والدولة، فهل بعد هذه النسبية، يمكن للبعض أن يتحدثوا عن حتمية الحل العلماني؟ وعن أن العلمانية أفق إنساني، سيمتد لكل دول العالم، وأنه عاجلً أو آجلً سينحصر الدين من الشأن العام، فعند هؤلاء إذا كان نيتشه قد أعلن موت الإله، فإن عصورنا الحالية ستعلن موت الدين هو الآخر، وتصفيته من الثقافة الإنسانية بشكل كامل.

ويتضح مما سبق عن لعلمانية في أوروبا، أن العلمانية كممارسة هى في طور التطور والتحديث المستمر، فهى متجددة بطبيعتها، وتواجه إشكالاتها بما يشبه حالة الانفعال الذاتى المتجدد، فهم هذا التطور، يساعدنا في التخفيف من جلد الذات الذى يقدمه لنا مثقفونا، فيما يخص رداءة العلاقة بين الدين والدولة في عالمنا العربى والإسلامي، فثمة نماذج عديدة يمكن لعالمنا الاستفادة منها، لا تقتصر على العلمانية الفرنسية وحدها، بل تمتد لعلمانيات أخرى أكثر اعتدالً، ويتم اختيارها بناءً على سياقات متداخلة، مرة يتقدم الدين لتتأخر الدولة، وفى أخرى يتراجع الدين ليترك المجال للدولة، وهكذا في تداولية سياقية.