الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حسين المرصفي ورسالة الكلم الثمان "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يبق من تحليلاتنا لبناء خطاب «المرصفي» وبنيته، سوى الحديث عن السلطات المعارضة والقوى المؤيدة لمضمونه، الأمر الذى لا يمكننا الوصول إليه إلا بنظرة فاحصة لأهم محركات الثقافة المصرية بخاصة والعربية الإسلامية بعامة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
وقد كفانا «الدكتور محمد حافظ دياب» العناء الكثير للوصول إلى غايتنا وذلك في مقدمته الرائعة لتحقيق هذا الكتاب فبيّن أن أسس النهضة المصرية لم تشغل الرأى العام القائد دفعة واحدة، بل جاءت متنامية ومتوائمة ومتواصلة مع تلك المشروعات الإصلاحية التى كانت ترمى إلى دفع العقل الجمعى المصرى قدمًا إلى الأمام وتخليصه من طور التقليد الجامد إلى طور التجديد والتطور، تلك المشروعات التى كان يخطط لها أكابر المثقفين المصريين في أُخريات القرن الثامن عشر من أمثال «الشيخ حسن العطار»، «الشيخ حسن الجبرتي»، «أحمد بن محمد الشرايبي»، «نفوسة المرادية» و«حسام الدين الهندي».
ذلك فضلًا عن المجالس الأدبية والعلمية التى كانت تعقد في بيوت الصفوة المثقفة آنذاك، وكان معظمها يناقش جل معارف العصر وكانت تجمع بين أصحاب الرأى في الأدب واللغة والسياسة والاجتماع والتربية، والعوام على اختلاف مشاربهم وطبائعهم.
بالإضافة إلى أحاديث خاصة حول قضايا الفلسفة والمنطق والعقيدة والتصوف وإحياء الموروث وتحقيقه وتهذيب الشروح والحواشى والترجمة والتصنيف ومقومات التمدن والمعارف العلمية الحديثة.
وفى مطلع القرن الثامن عشر وبالتحديد في بداية العقد الثالث، شرع «إبراهيم باشا ابن محمد على (1789م-1848م)» في تأسيس نهضة عربية حديثة على غرار النهضة الأوروبية مع الاحتفاظ بالمشخصات والقيم الموروثة، فاستعان «بالشيخ حسن العطار» بوصفه إمام المستنيرين وشيخ الأزهريين المصلحين في عصره فأرسل البعثات ووضع اللبنات الأولى للتعليم الحديث وذلك بمنأى عن شيوخ الأزهر الذين رفضوا تلك النهضة.
ثم ننتقل إلى الطور الثانى من أطوار النهضة المصرية ويتمثل هذا الطور في كتابات «رفاعة الطهطاوي» عن التجديد، التربية، الوطنية والنظم السياسية الأوروبية. وبظهور صحافة الرأى في منتصف القرن التاسع عشر راح المثقفون يناقشون فيما بينهم الضوابط العلمية لنقد الواقع المعيش الأمر الذى يمكنهم من الوقوف على الأسس الجوهرية التى تميز بين نهضة الشرق المرجوة والحداثة الغربية، وبات مصطلح التمدن هو الشاغل الأكبر الذى ينبغى عليهم تحليله وفحصه ودراسته من الناحية النظرية «الأخلاق، الدين، اللغة، العادات والتقاليد، السياسة، الاقتصاد والاجتماع». والمنافع العلمية والعملية «التعليم، الزراعة، التجارة والصناعة».
وفى صحيفة «روضة المدارس» كتب «ميخائيل عبدالسيد (1860م-1914م)» العديد من المقالات عن (بث المعارف ونث العوارف).
ثم توالت كتابات الحداثيين من أمثال «محمد قدري(1821م-1886م)» عن عوامل التمدن، أما «خليل أفندى غانم» فكان له السبق في الكتابة العربية الحديثة عن دور الاقتصاد في تحديث الأمم، وكتب «سعيد أفندى البستاني» على استحياء عن النظم السياسية الحديثة والحكومات العادلة والممالك المستبدة، وذلك بإيعاز من التيار العلمانى التركى الذى أطاح بالإمبراطورية العثمانية ودفع «السلطان عبدالحميد الثاني (1842م-1918م)» للأخذ بالدساتير الأوروبية فظهر الدستور التركى العلمانى عام 1876م.
وعلى صفحات صحيفة «المفيد» - قبيل الثورة العرابية - طرح «حسن الشمسي» مفهومًا لمصطلح الوطنية بمنأى عن الطائفية والدين.
ثم جاء الطور الثالث مع «على مبارك» و«جمال الدين الأفغانى وتلاميذه» و«يعقوب صروف» و«جورجى زيدان» و«شبلى شُميّل» و«أديب إسحاق». حيث مجالس المثقفين حول مفهوم الأمة والجامعة الإسلامية ومشروع «الكواكبي» للوحدة العلمانية والسياسة الشرعية والفلسفات المادية والغزو الأجنبى والمحاكم المختلطة وما أدخله «الخديوى إسماعيل (1830م-1895م)» من نظم ومؤسسات ومعارف أوروبية على الثقافة المصرية وتأسيس الحركة الوطنية.
ووسط هذا الزخم المعرفى والثراء الثقافى وتطلع شبيبة الطبقة الوسطى - التى أسست أول جمعية تعبر عن غايتها الإصلاحية وتطلعها للمدنية والتقدم وهى «جمعية اتحاد الشبيبة المصرية» عام 1879م -. ظهر كتاب «رسالة الكلم الثمان لحسين المرصفي» محاولًا تغذية أذهان الشباب بالمفاهيم الصحيحة التى تمكنهم من تحقيق مآربهم وتجيشيهم في الوقت نفسه لحمل راية الاستنارة في العقد الأخير من القرن التاسع العشر والنصف الأول من القرن العشرين، وتلافى الصدام في الوقت نفسه مع القوى الرجعية في الأزهر وجماعات التغريب الوافدة من الشام وتركيا وأوروبا والخلايا الماسونية التى أسست محافلها بالقاهرة والإسكندرية، وقصر الخديوى المندفع صوب التحديث، وعصابات العنف التى شرع في تكوينها «جمال الدين الأفغاني» ومن بعده «عبدالعزيز جاويش» بالإضافة إلى دوائر الاستشراق السياسى والعقدي، التى أسست مكاتب لها في العديد من الصحف والمجلات.
أجل أن كل هذه السلطات كانت مناهضة للوعى الوطنى المصرى الذى كان يحمله «حسين المرصفي» في رسالته، وسوف نكشف في المقالات التالية أهم معالم مشروعه التجديدي.
وللحديث بقية....