الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة نفسية لمناظرة الخشت وشيخ الأزهر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تابعت مثلما تابع غيري المناظرة التي جرت بين الدكتور محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة وفضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فقد كانت بين فيلسوفين مرموقين لكل منهما باع في مجاله، وأود أن أؤكد في البداية أنها كانت مناظرة جيدة تؤسس لإمكان وجود حوار بناء ومثمر بين العلماء والمفكرين، لكنني أتحفظ على أسلوب فضيلة شيخ الأزهر القامة الكبيرة التي نجلها جميعًا ونحترمها كرمز وقيمة تتبوأ مكانتها على رأس مؤسسة الأزهر التي نعتز بها جميعا.

ما كان يجب على فضيلة الشيخ أن يستهين بالرأي الآخر ويقلل من قيمته، بل كان عليه أن يناظره بالحجة والدليل، ودون انفعال. وهنا لن أتحدث عن مغالطات منطقية في ردوده أشار إليها كثير من الفلاسفة المنصفين في تعليقاتهم التي سجلوها عن المناظرة، فهو نموذج وقدوة للجميع كان عليه أن يكون أكثر روية.

وما كان يجب على علماء الأزهر أن يظهروا بهذه الصورة غير اللائقة في التصفيق لكل كلمة يقولها شيخ الأزهر وكأننا في مبارزة لا بد فيها من فوز الشيخ.

 ولكن بعد رد الدكتور الخشت تقبل شيخ الأزهر الأمر بابتسامة لطيفة عكست تجاوبه وتفهمه لرسالة الخشت التي قدمها باتزان وعقلانية تعكس فلسفته ورؤيته التي يحاول أن يرسخ لها.

وكما قال الخشت لفضيلة الشيخ كل البشر تخطئ وتصيب، وفضيلتك تخطئ وتصيب ومن ثم يجب أن تسود هذه المسلمة في حواراتنا وتناولنا لقضايانا الفكرية المختلفة، في ظل الاحترام المتبادل بين كل الأطراف، ودون انفعال أو عصبية تفقد صاحبها المصداقية.

لا يوجد أحد بعيد عن التقييم والنقد طالما كان الهدف هو المصلحة العامة، وليس مصلحة شخصية ينشدها البعض أو بطولة يسعى لتحقيقها.

وهنا أعرض لبعض ملامح قراءتي للمناظرة التي تمت بين الخشت وشيخ الأزهر، وما تناولته مواقع التواصل الاجتماعي وكثير من المنصات الإعلامية الأمينة والمغرضة، من تناول لها، وهي:

أولًا: أن الخشت في مشاركته في هذا المؤتمر لا يمثل جامعة القاهرة، ولم يشارك بصفته رئيسًا لجامعة القاهرة، ولم يحضر للمؤتمر لعرض فلسفته في إدارة جامعة القاهرة ولا رؤيته في الارتقاء بها لتكون بين أرقى ثلاثمائة إلى أربعمائة جامعة من جامعات العالم في تصنيف شنغهاي، ولكنه شارك كمفكر وفيلسوف مرموق أمضى سنوات طويلة من حياته العلمية في الدعوة لتطوير العقل وتجديد الخطاب الديني وتغيير طرق التفكير.. وبالتالي فإن البعض حاول أن يصطاد في الماء العكر، ويحاول إضفاء طابع سياسي على هذه المناظرة الفكرية الفلسفية، وجعل المناظرة بين الدولة التي يمثلها الخشت، والأزهر الشريف كما يمثله فضيلة شيخ الأزهر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى صنفوا الخشت على أنه ممثل التيار العلماني والليبرالي في مقابل التيار الديني والمحافظ. وهذا غير صحيح بالمرة. فمنذ أكثر من سنتين عندما تولى الخشت رئاسة جامعة القاهرة اتهمه البعض بأنه سلفي متعصب، ويثير الفتنة بين أبناء المجتمع، ولا يتقبل الآخر. واليوم يتهمه آخرون بأنه علماني يسيء للدين. فماذا يعني ذلك؟ الإجابة أن ذلك يعني أن بعضًا مما يقرأون له أو يسمعونه ربما لا يفهمون مقاصده، أو يحاولون تشويه فكره، سواء عن قصد أو دون قصد. ومن ثم فكلا الفريقين يفتقد العقلية النقدية القادرة على التمييز بين الغث والثمين والتي يرسخها الخشت في فلسفته.

ثانيًا: لمن يدعون دون علم أن الخشت لا علاقة له بموضوع المؤتمر وتجديد الخطاب الديني، أقول لهم إن فضيلة شيخ الأزهر هو الذي وجه إليه الدعوة ليشارك في المؤتمر لسابق معرفته بجهوده في هذا الموضوع وفلسفته. كما أن فضيلته هو الذي اختاره عضوًا بمركز حوار الأديان  بالأزهر الشريف لقناعته بدوره الفكري والفلسفي في هذا المركز. فالأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت هو أستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة ، وأول من حصل على لقب الدكتوراه، ثم الأستاذية في فلسفة الدين، وقد تجاوز عدد مؤلفاته السبعين كتابًا، مؤلفًا ومترجمًا عن أكثر من لغة أجنبية، وحقق أربعة وعشرين  كتابًا من التراث الإسلامي، وله عشرات البحوث النظرية والتطبيقية المنشورة في المجلات الدولية والإقليمية والمحلية. وقد صدرت أربعة كتب عن فكره الفلسفي، وإسهاماته العلمية والفلسفية باللغتين العربية والإنجليزية، كتبها عشرات من أساتذة الجامعات المصرية والعربية ومحررون أجانب، كما صدر عنه وحول فكره  الفلسفي وأطروحاته العلمية والمنهجية أكثر من 78 بحثًا  علميًا محكمًا. وتقديرًا لإنجازات الدكتور الخشت في مجال الفلسفة، بصفة عامة وفلسفة الدين بصفة خاصة، فقد تم تصنيفه من اليونسكو ضمن الفلاسفة العرب المعاصرين في موسوعة الفلاسفة العرب المعاصرين، الصادرة عن كرسي اليونسكو للفلسفة. وكان آخر ما كتب عن فلسفته التنويرية الكتاب الذي أصدره كرسي اليونسكو للفلسفة بعنوان: فيلسوف التجديد والمواطنة والتقدم، والذي شارك في إعداده ثمانية وعشرون عالمًا ومفكرًا وباحثًا من الوطن العربي وبعض الدول الأوروبية. هذا لمن لا يعرف الخشت، ويدعي أنه لا علاقة له بما يتحدث فيه.

فالخشت صاحب مدرسة فكرية تتبنى العقلانية النقدية منهجًا للتفكير والبحث، وأسس في الوقت نفسه رؤية جديدة للعالم والحياة والمستقبل على أسس عقلانية وروحية معًا، وذهب إلى ضرورة صياغة خطاب ديني جديد لمجتمعنا الإسلامي والعربي، وليس مجرد تصحيح الخطاب الديني السائد حاليًا، لاعتقاده بأنه لم يعد مناسبًا لواقعنا، ولا صالحًا لعصرنا بما نعايشه من تغيرات هائلة أفرزها النظام العالمي الجديد، وما أوصلتنا إليه العولمة، وأثرت تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر في سلوك الناس.

فالخطاب التقليدي تحكمه أفكار جامدة ومتصلبة من شأنها أن تفسد حياة الناس وتشوه دينهم. ويرى أن تغيير منظومة القيم التي تحكم سلوك الناس ضرورة لتشكيل أخلاق التقدم، وأن العلماء يجب أن يعيدوا النظر فيما قدموه من نظريات بعيدة عن الواقع المعيش، ومراجعة عجزهم عن ترسيخ فلسفة الفعل والإنجاز. ومن ثم، كان التوجه إلى الربط بين الدين والحياة مطلبًا ملحًا لترسيخ واقع الدين الإسلامي السمح وقيمه الراقية التي تعلي قيم المواطنة وتقبل الآخر، وتنبذ العنف والتطرف وتدين الإرهاب .

ثالثًا: أن كثيرًا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي لم يسمعوا الحوار بعمق ولم يتمحصوا مضمونه، مثلما هو الحال في كل القضايا المطروحة على مواقع التواصل الاجتماعي، وراح كل منهم إما مدافعًا ومناصرًا لشيخ الأزهر وفخورًا به لدفاعه عن الإسلام دون أن يفهم الرسالة التي قدمها الخشت، ودون أن يعطي لنفسه الفرصة للتفكير في فحواها، وكل ما فعلوه عمل مشاركة لكلمة شيخ الأزهر، وكأنه حقق نصرًا مظفرًا للإسلام والمسلمين، وإما مدافعًا عن فكر الخشت التنويري الذي لا يمس ثوابت الإسلام من قريب أو بعيد. فالخشت يؤمن إيمانًا تامًا مثله مثل كل المسلمين بثوابت الدين وهي القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. وفي كل كتاباته وأحاديثه يميز تمييزًا قاطعًا بين الإسلام وتراث المسلمين، فالإسلام هو المقدس بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، بينما التراث هو ما قدمه المسلمون الأوائل من جهود عقلية لفهم القرآن والسنة النبوية وهي كلها جهود بشرية تصيب وتخطئ، وقابلة للمراجعة. ومن ثم فهو يرى أننا في حاجة إلى تجديد الخطاب الديني، والدخول لعصر ديني جديد يتم فيه العودة للمنابع الصحيحة من القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية الشريفة. وهذا يتطلب تغيير طرق التفكير ورؤية العالم على النحو الذي صاغ به فلسفته وقدمها خلال محاضرته وتعليقه على مداخلة فضيلة شيخ الأزهر.

المشكلة إذن في إضفاء شكل من أشكال القدسية على الجهود البشرية التي قدمها علماء المسلمين وكانت مناسبة لزمانهم، ولكنها لم تعد مناسبة لزماننا ولا لظروفنا الآن، وتحتاج للتجديد، بما في ذلك تجديد الخطاب الديني الذي يمثل أحد محاور فلسفة الخشت . ولي خبرة جيدة منذ عدة سنوات أذكرها في هذا السياق. حضرت مرة ندوة علمية في إحدى الجامعات العربية الشقيقة التي شرفت بالعمل بها. كانت الندوة لأحد أساتذة الطب النفسي، وتطرق الأستاذ في حديثة للجان وعلاقته بالإنسان، وكان سؤاله محددًا: هل يمكن أن يدخل الجان جسم الإنسان ويؤذيه؟ وأجاب من منظور الطب النفسي وعلم النفس إجابة علمية منطقية بأن ذلك غير ممكن، وقدم تفسيرًا طبيًا لما يعتقده البعض بتلبس الجان للإنسان. وحدثت مشكلة كبيرة جدًا، تم التحقيق فيها، واضطربت الجامعة لهذا السبب، ووجهت اتهامات لمن دعى هذا الأستاذ للندوة، فكيف يجرؤ على أن يقول كلامًا يخالف فيه ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهما ممن أكدوا بإمكان دخول الجان جسم الإنسان. وقس على ذلك أمورًا كثيرة تتداولها رسائل مواقع التواصل الاجتماعي يوميًا، وتواجهنا على صفحاتنا الشخصية. فهذه فتوى الشيخ فلان رحمه الله، وتلك مقولة العلامة فلان رحمه الله، وتلك دعوى الإمام فلان طيب الله ثراه. ويطالبنا صاحب الرسالة بإعادة إرسالها لأصدقائنا وإلا سنكون آثمين.

 رسائل كثيرة تمس حياتنا اليومية وكلها موجهة بفكر معين مقصود لا يناسب حياتنا الآن. هذه هي المشكلة التي نحن بصددها ويتصدى لها الخشت بقوة لمحاولة حلها والتخلص منها. فنحن لا نستطيع أن نميز بين المقدس والبشري، ونتعامل مع الجهود البشرية كأنها مقدسة.

هنا ينغلق العقل ولا يستطيع أن يتقبل وجهة النظر الأخرى في أي موضوع، بل ويعجز حتى عن طرحها والتعامل معها.

فلا داعي للانفعال والتشنج على منصات التواصل الاجتماعي، ولا تجب الإساءة لأصحاب الفكر المستنير الذين يرغبون في الارتقاء بالإنسان وتحقيق رفاهيته ليكون حرًا في التعبير عن رأيه، طالما لا يخرج عن مقدسات الدين، ويدعو لتطوير العقل وتغيير طرق التفكير. فالتفكير المستنير هو المخرج للمأزق الذي نعانيه الآن من الجمود والتطرف والتعصب الذي كشف عن نفسه في كتابات الكثيرين ممن تناولوا المداخلة بالتعليق. فالعقول المغلقة التي أنهت حياتها الفكرية بما حصلته من معارف ومعلومات تحتاج إلى وقفة مع الذات ومراجعة عقلية متأنية، تسمح فقط لنفسها بسماع وجهة النظر الأخرى، أقول فقط السماع دون انفعال. لو حدث ذلك، وهو صعب لدى هؤلاء الأشخاص، فسنكون قد قطعنا شوطًا جيدًا في سبيل تغيير طرق التفكير وإمكان تقبل وجهة النظر المخالفة، لعمل تدريب عملي للعقل.