الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شعب ثائر بطبعه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"شعب مجد قوي، يعتريه الضعف كل بضع مئات من السنين -طبيعة الأشياء- فتتعرض بلاده للغزاة من الجنوب والغرب والشرق، فيتعرض هو لمؤثرات مختلفة، لكنه بالرغم منها ظل يحتفظ بطابعه وصفاته القومية وبشخصيته المتميزة بارزة المعالم"
لم أجد أروع من تلك المقولة التي دونها عالم الآثار والمصريات الإنجليزي "ويليام فليندر بيتري" وذكرها المؤرخ المصري جمال حمدان في جزئه الأول من كتاب "شخصية مصر"، لتعبر عن تلك الحالة التي انتابت شعب مصر خلال الفترة من 25 يناير حتى 30 يونيو، فكل من كان في القاهرة والإسكندرية والسويس وأسوان، وكل محافظات ومدن وقرى مصر، أدرك تماما أن ما حدث لم يكن ثورات على الإطلاق، ولكنها انتفاضة شعب أدرك أن هويته وشخصيته التي انفرد بها طوال أكثر من سبعة آلاف عاما تضيع منه.
فهذه الأمة التي قال عنها عالم المصريات الفرنسي "جاستون كاميل شارل ماسبيرو"، أمة عتيقة دون سائر الأمم والشعوب تدل طبائع أبنائها كما تدل آثارها على البقاء والخلود، فكم من مرة اجتاحها الغاصبون الأقوياء وظنوا أنهم حولوا أرضها رمادا تذروه الرياح، وظنوا أنهم قلبوا مدنها وقراها أنقاضا فوق سكانها فإذا بأولئك السكان ينفضون عنهم ما ظنه الغاصبون فناء، ويبعثون من تحت الأنقاض ليعيدوا البناء والكفاح من جديد.
الغريب أن بعض المؤرخين كان له رأي أخر عن الشعب المصري، ويكفي أن شيخ المؤرخين المصريين "أحمد بن على المقريزي" في معرض حديثه عنهم قال فيهم، "المصريون إذا ساسهم غيرهم كانوا أذلاء، والغالب عليهم الجبن"، كما سار على نهجه المؤرخ المصري "عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي" حينما قال أن، "الفلاح المصري مع المحتسب أذل من العبد المشترى"
عبارات المقريزي والجبرتي وقفت ضمن أكثر عبارات التاريخ قسوة على شعب مصر، ورغم رفض مؤرخي الشرق والغرب طوال تاريخ مصر القديم والوسيط والحديث والمعاصر لها، إلا أن المؤرخ جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" يكاد يصل إلى حد الإدانة للشعب المصري، حين يقول أن ثورات المصريين لن تزد عن كونها مجرد هبات وهوجات وتمردات عاجزة وفاشلة.
بعض المؤرخين أكدوا على أن جمال حمدان لم يكن يقصد في عبارته أن يعطي صورة سلبية عن الشعب المصري، بقدر ما أنه يريد أن يلفت النظر إلى نوعية الثورة التي يحتاجها المصريين، ودللوا على ذلك في عبارته "إن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية، بمعني ثورة على نفسها أولا، وعلي نفسيتها ثانيا، أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها.. ثورة في الشخصية المصرية وعلي الشخصية المصرية.. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر.
لمصر تاريخ طويل في الثورات أثبت من خلالها الشعب المصري أنه شعب يتميز بالصبر، والتريث، وليس شعبًا "مسالمًا، خانعًا" يرضي بالذل، ويصمت على العار والهوان، وينام على الضيم، فقد أثبتت الأحداث عبر التاريخ ان الشعب المصري تجاوز كثيرًا ما حل به من كوارث، تلمسًا لطريق النجاة، وبعد فيض الكيل يتجه إلى الخلاص، خلاص ليس له طريق سوي الثورة وتغيير الأمر الواقع.
ومصر عبر تاريخها الطويل تواكب على حكمها فراعنة وملوك وسلاطين ورؤساء، تألب على أرضها الطيبة الغزاة والفاتحون، وكان شعبها يوالي الصالحين من الحكام وينبذ الطالحين.
ويذكر التاريخ أن أول حركة قومية يمكن ان توصف بأنها "ثورة" هى تلك الحركة التى تزعمها ثلاثى فراعنة الأسرة السابعة عشرة والتى كان هدفها طرد "الهكسوس" من مصر، بعد أن حكموها ما يقارب القرنين من الزمان.
وفي عام 2281 قبل الميلاد أي قبل 4294 عامًا من الآن، خرج أجدادنا المصريون القدماء إلى ميادين مصر في ثورة شعبية عارمة أتت على الأخضر واليابس، وسميت ثورة "الرعاع" أو الجياع، منددين بحكم الملك الضعيف "بيبي الثاني" آخر ملوك الأسرة السادسة، وهم يرفعون شعاراتهم "تسقط المحاكم، تسقط المعابد، الأرض لمن يزرعها، الحرفة لمن يحترفها والكل سواء"، واتفق الثوار على الإضراب عن دفع الضرائب وأحرقوا المنشآت الحكومية واعتدوا على قبور الملوك ونهبوها، وانتشر قُطّاع الطرق في كل مكان وسادت حالة من الانفلات الأمني شبيهة بما حدث في ثورتي 25 يناير و30 يونيو.
ومن يتابع أسباب ثورة الجياع المصرية في ذلك العصر سيجدها تتشابه تقريبا مع أسباب ثورتي الشعب المصري، فقد اندلعت تلك الثورة في آخر عصر بناة الأهرام أو ما يطلق عليه نهاية الدولة القديمة، وتُعد أول ثورة اجتماعية يخرج فيها المصريون على حاكمهم الذي يعتبرونه حلقة الوصل بينهم وبين الإله.
كانت فترة حكم "نفر كا رع بيبي الثاني" أطول فترات الحكم في مصر القديمة فقد حكم البلاد نحو أربعة وتسعين عامًا وتوفى عن مائة عام، وكانت أمه "انخسينمينري رع الثانية" وصية عليه في البداية حيث تولى الحكم بعد موت أبيه وعمره لا يتجاوز الست سنوات، وكان حال مصر في بدايات عهده مُزدهر، وفي أواخره شهد العالم أول ثورة في التاريخ.
وكان لطول مدة حكمه أثره في ضعف الأسرة، وفي النهاية بسبب كبر سنه أصبح غير قادر على كسب طاعة أمراء الأقاليم الأقوياء الذين زادت سلطتهم وتمردوا عليه، ولم يدينوا له بالولاء، وامتنعوا عن دفع الجزية، وظهر عدم الاستقرار وعدم الأمن فسادت الفوضى في كل مكان، وأهملت القوانين وانهار الصرح الاجتماعي، وطرد الموظفين من وظائفهم وزاد السلب والنهب.
ولضعف الملك وكبر سنه وذهوله عما يجري وتسليمه بأكاذيب المنافقين من حوله، استقل حكام الأقاليم بأقاليمهم واستبدوا بالأهالي، ففرضوا المكوس الجائرة، ونهبوا الأقوات، وأهملوا أي إصلاح للري والأرض، وانضم إليهم الكهنة حرصا على أوقافهم، يبيحون لهم بفتواهم الكاذبة كل منكر، غير مبالين بأنات الفقراء وما يعانونه من قهر وذل وجوع، وكلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر ووعدوه بحسن الجزاء في العالم الآخر، وبلغ اليأس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، ولا رحمة تهبط. 
وتزامنت عوامل الطبيعة لتزيد من تفاقم الوضع المتردي ليس في مصر وحدها ولكن على مستوى الشرق الأوسط كله محدثة مجاعة وفقر شديدا وهذا ما أكدّه المسح الجيولوجي للعصر الهولوسيني الحديث حيث تمّ تأكيد حدوث ظاهرة انخفاض في منسوب النيل في مصر وكذلك جفاف في عدّة مناطق أخرى على مستوى الشرق الأوسط منها بلاد العراق والجزيرة العربية وشمال أفريقيا.
ونتيجة لكل هذه العوامل انطلق الشباب الثائر بين الناس يدعونهم للعصيان ومحاربة الظلم بالقوة، وسرعان ما استجابت الجماهير الغفيرة إلى النداء، فحطموا حاجز الخوف والتقاليد البالية، ووجهوا ضرباتهم القاتلة إلى الطغاة والظالمين، وسرت النار المقدسة إلى جميع البلاد وانطلقت قذائف الغضب الأحمر على الحكام والموظفين ورجال الدين والمقابر.
قام المصريون بعمل إضراب عام شمل البلاد وشل حركتها تمامًا، واعتصموا في أكبر المعابد كي يلفتوا النظر إليهم، وقاموا ببعض الأعمال التي من شأنها إجبار الملك على سماع مطالبهم كالوقوف على أبواب المعابد والهتاف بصوت عال وانطلق الكثير من المظلومين يدعون الناس إلى العصيان ومحاربة الظلم، فحطموا حاجز الخوف والتقاليد وسرعان ما استجاب باقي الشعب إلى النداء، فـاشتعلت نار الثورة في كافة أنحاء مصر.
فانقلبت الأوضاع في المُجتمع رأسًا على عقب وانهارت الدواوين والمحاكم ونُهبت سجلاتها وانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم يعد أحد يخشى رجال الأمن ولا النبلاء ولا الكهنة ولا الأسر المالكة، ونهب الفقراء الأغنياء واللصوص صاروا أغنياء وأصبح السادة عبيدًا وتخلى الناس عن خدمة الطقوس الجنائزية وعجزوا عن دفن جثث ذويهم فألقوا بها في النيل حتى أصبحت التماسيح ضخمة بسبب التهامها لهذه الجثث، وأصبح السادة السابقون عبيدًا لعبيدهم السابقين، وتخلى القوم عن خدمة الطقوس الجنائزية الفرعونية القديمة.
الجدير بالذكر أن أحداث هذه الثورة جاءت في مدونة كتبها مؤرخ اسمه "ايبوير" في بردية بعنوان (صرخة نبي)، وكذلك حسب ما ورد في حجر جنوب سقّارة وهرم بيبي الثاني ونصوص الأهرام التي وجدت في أهرامات عائلة الملك بيبي الثاني في جنوب سقّارة.
وفى عهد الأسرة العشرين غزت القبائل القادمة من الشرق، والقبائل حليفتها القادمة من الغرب، أرض الدلتا واستقرت فيها مدة من الزمن ولكن السكان ثاروا عليهم، وتم إجلاؤهما عن مصر إلى الشرق والى الغرب، في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وكانت هذه الثورة الثانية صورة مصغرة للثورة الأولى على الهكسوس.
وفى القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، كانت مصر مسرحا لحوادث لم يذكر التاريخ مثيلا لها في بلد آخر، فقد غزا الإثيوبيون الوجه القبلى وغزا الأشوريين الوجه البحرى، وجعل هؤلاء وأولئك يتقاتلون على أرض مصر ووقف الشعب المصرى يراقب الموقف حتى ضعف الفريقان، فانقض المصريون على الإثيوبيين وعلى الأشوريين معا، وطردوهم من بلادهم، وعادت لمصر سيادتها في عهد ابسماتيك الأول 650-610 قبل الميلاد.
كما تدفقت جحافل الفرس على مصر فاحتلتها وضمها قمبيز إلى إمبراطوريته سنة 525 قبل الميلاد، وظلت مصر خاضعة لحكم الفرس حتى سنة 331 أى نحو مائتى سنة، وسمى المصريون القدماء عهد الحكم الفارسى "عهد الويلات"، وعمدوا إلى الثورة أكثر من مرة لخلع ذلك العدو الثقيل، وتحالفت معهم الشعوب المجاورة التى غزاها الفرس أو أرهقوها، كالليبيين والفينيقيين والإغريق وغيرهم وتم النصر للمصريين في النهاية فطردوا الفرس ووحدوا دولتهم، نتيجة لثوراتهم المتواصلة.