تنظيم القاعدة:
عملت أمريكا على أن تجلب الخطر إلى أراضيها، فأدخلت المنفذين لحادث ١١ سبتمبر إلى حدودها بمعرفتهم، وبعد تنفيذ الحادث الذي أذهل العالم، ومثّل دوائر من الغموض لم تكشف حتى الآن، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها وجدت العدو، وبدأت حربًا في أفغانستان تمهيدًا إلى الوصول إلى المنطقة، وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى وصلت إلى العراق، الذى أسقطت نظامه وسرّحت جيشه، والآن تراه وهو يتفتت.. وكانت قد مهدت لذلك مبكرًا عندما بنت قواعد أمريكية في دول المنطقة وتحديدا في قطر والكويت والمحيط الأطلسى.
خسرت أمريكا كثيرًا في الحرب، ولذلك ظهرت بداية من ٢٠٠٤ نظرية جديدة في الحروب، كانت الفلسفة العامة لها هى الفوضى الخلاقة، تلك النظرية الملعونة التى أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس.
قامت هذه النظرية على ضرورة تفتيت الدول من خلال
نظرية جديدة في الحرب وهى حرب المجتمعات، حيث يتم القضاء على المجتمع من داخله،
دون الحاجة إلى تدخل خارجى.
في ٢٠٠٤ كان نظام مبارك يرصد جيدًا ما يحدث، تأتيه
التقارير الأمنية والمخابراتية بالتحركات الأمريكية، لكن النظام لم يتحرك، استهان
بما كان يأتيه، ربما اعتقادًا منه أنه لا يمكن التضحية به مطلقًا لأنه يقدم خدمات
جليلة للأمريكان، دون أن يعرف أن المصلحة العليا للأمريكان تتجاوز مبارك ونظامه
وكل العملاء الموجودين في المنطقة، وقد يكون هذا هو السبب في أن ما جرى في يناير
كان مفاجأة لمبارك ونظامه، رغم أنه كان يعرف أن الأمر مُعَدٌ من ذي قبل.
كانت خريطة تقسيم المنطقة جاهزة تمامًا، وقد
نشرتها جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية في ديسمبر ٢٠١٣، ويمكن من خلالها أن
نتعرف على الآتى:
بالنسبة للعراق في أبسط الاحتمالات العديدة
المتوقعة سوف ينضم أكراد الشمال إلى أكراد سوريا، وسوف ينضم الكثير من المناطق
الوسطى التى يسيطر عليها السُّنة بالمناطق السُّنية في سوريا، ويتحول الجنوب إلى
شيعستان، بالطبع احتمالات العنف والدم المصاحب لهذه الأعمال مؤكد وواسع.
وعن اليمن تقول الخريطة إنه من الممكن أن تنقسم
الدولة العربية الأكثر فقرًا ولمرة ثانية إلى إقليمين عقب الاستفتاء المحتمل الذى
سينفذ في اليمن الجنوبى حول الاستقلال، وفى انعطاف أكثر قوة يمكن أن يصبح اليمن
كله أو جزء منه ضمن أراضي المملكة العربية السعودية في مجملها إن لم تكن كلها تمد
من البحر، ومن ثم فالوصول المباشر إلى بحر العرب سوف يقلل الاعتماد على الخليج
العربى، وكذلك يقلل من قدرة إيران على غلق مضيق هرمز.
نأتى إلى سوريا، حيث نقطة الانطلاق، التى يمكن أن
يؤدى التنافس الطائفي والقبلي بها إلى تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء على الأقل:
الأول: العلويون وهم أقلية تحكم سوريا منذ عقود
وتسيطر على الشريط الساحلي.
الثانى: كردستان السورية يمكن أن تنفصل وتندمج في
النهاية مع أكراد العراق.
الثالث: منطقة الوسط السُّنية سوف تتبع هذا التقسيم
ويحتمل أن تضم مناطق في العراق لكي تشكل ما يسمى دولة سنستان.
ليبيا المفككة، الأمر فيها واضح للغاية، فنتيجة
للتنافس القبلي والإقليمي القوي، يمكن أن تنقسم ليبيا إلى جزأين تاريخيين، دولة
طرابلس ودولة برقا، مع احتمالية وجود دولة فزان الثالثة في جنوب غرب ليبيا.
وفى النهاية يأتى الدور على المملكة العربية
السعودية، التي يمكن أن تنقسم إلى خمس مناطق قبل ظهور الدولة الحديثة.
في هذه الخريطة ظلت مصر دون تقسيم، لأن المخطط الغربى كان ولا يزال يتعامل مع مصر على أنها الجائزة الكبرى، الدولة الغنيمة التي سيكون الفوز بها هو الفوز الأكبر، رغم أن ما يُراد بمصر واضح للغاية، فهم يبحثون عن إمارة إسلامية تضم صحراء سيناء والدلتا، ودولة مسيحية في الصعيد، ثم دولة نوبية.
هذا المخطط تعمل عليه ٦ جهات، كل جهة منها لها
أهدافها الواضحة، الأمريكان رُعاة الخطة، وإسرائيل التى ستكون الدولة المحورية
والأهم في المنطقة، والمتحكمة في دول ضعيفة ومفتتة وبلا جيوش، والاتحاد الأوروبي
بمخابراته الكبرى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وتركيا التى تحلم بدخول
الاتحاد الأوروبي بأى طريقة وتعتبر اشتراكها في الخطة ثمن حصولها على هذه العضوية،
وقطر التي تريد أن تتحول إلى دولة زعيمة مع صغر حجمها، ثم التنظيم الدولي لجماعة
الإخوان المسلمين الذي يحلم بدولة، على أي شبر من أرض العرب.. ولكل جهة من هذه
الجهات دور محدد، ممتد يخطط له منذ سنوات عديدة.
أدوات التقسيم:
كان لا بد للولايات المتحدة والقوى التي تريد تقسيم المنطقة من أداة تتوافر فيها عدة عناصر أساسية أهمها:
الأول: التواجد المكثف في أكثر من بلد بالمنطقة.
الثاني: إمكانية تقديمه باعتباره بديلًا لتلك الأنظمة.
الثالث: لديه طموح غير مشروع يمكن استغلاله بالتلويح بإمكانية تحقيقه.
وقد وقع الاختيار على التنظيم الدولي للإخوان لتلك الأسباب ولسابق العلاقة التاريخية بين الأمريكان والجماعة، وبدأت واشنطن في تكثيف الاتصالات بقيادات الجماعة عقب حادث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة.
التنظيم الدولي والأمريكان:
في بداية الألفية الجديدة وبالتحديد عام ٢٠٠٢ بدأت السفارة الأمريكية بالقاهرة في تكثيف اتصالاتها بقيادات ورموز جماعة الإخوان المصريين عقب حصول مرشحيها على ١٧ مقعدًا في انتخابات مجلس الشعب عام ٢٠٠٠، وهدوء موجات الغليان التي أعقبت أحداث الحادى عشر من سبتمبر؛ حيث لجأت الولايات المتحدة الأمريكية لتحسين صورتها وعلاقاتها داخل العالم الإسلامي، وتبلورت أبرز مظاهر تلك الاتصالات فيما يلى:
سعى محمد مرسي العياط للالتقاء بالسفير الأمريكى عقب أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، لإبلاغه رفض الجماعة للعمليات الإرهابية.
التقاء الأمريكية Diane Kelly، سكرتيرة القسم السياسي بالسفارة الأمريكية، والمتخصصة في متابعة نشاط جماعة الإخوان بمصر، بالإخوانى صلاح عبدالمقصود عام ٢٠٠٢، الذي أكد لها أن الجماعة تُكِن مودة عميقة للولايات المتحدة الأمريكية، وطلب منها توجيه الدعوة لقيادات الجماعة لاستعراض توجهاتهم أمام الكونجرس الأمريكى.
مشاركة محمد مرسي العياط، رئيس الهيئة البرلمانية للجماعة آنذاك، في الملتقى السنوى لمسلمي سويسرا، الذي عُقد في مدينة برن بتاريخ ١٣ ديسمبر ٢٠٠٢، حيث التقى خلاله السفير البريطانى وسكرتير أول السفارة الأمريكية، كما وجهت إليه دعوة لحضور الاحتفال الذي نظمته السفارة بمناسبة زيارة وزير الاقتصاد والشئون السياسية الأمريكى للبلاد بتاريخ ٣٠ يناير ٢٠٠٣.
التقاء محمد مرسي العياط خلال احتفال السفارة الهندية بالقاهرة بذكرى قيام الجمهورية الهندية في ٢٦ يناير ٢٠٠٣ بالملحق السياسي بالسفارة الأمريكية، الذي استفسر منه عن موقف الجماعة إزاء القضيتين الفلسطينية والعراقية.
وجهت الجامعة الأمريكية بالقاهرة عددا كبيرا من الدعوات لقيادات إخوانية، للمشاركة في المؤتمرات التي عقدتها مؤسسات أمريكية عديدة ببعض الدول العربية خلال الفترة من ٢٠٠٤ إلى ٢٠٠٦، وبخاصة في كل من «الكويت، اليمن، البحرين، قطر، الأردن، لبنان، ألمانيا، تركيا» وبصفة خاصة كل من عبدالمنعم أبوالفتوح، وعصام العريان، اللذين شاركا في غالبية تلك المؤتمرات.
استعان الإخوان بجناح التنظيم الدولى في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أبرزهم الدكتور حسان حتحوت، رئيس أكبر المنظمات الإسلامية بأمريكا؛ حيث كان أول من استقبل الرئيس الأمريكى جورج بوش بالمركز الإسلامى التابع لهم في العاصمة الأمريكية، عقب أحداث ١١ سبتمبر مباشرة، بوصفه ممثلًا عن مجلس التنسيق السياسي الإسلامى الأمريكى، وعن مجلس الشئون العامة الإسلامية، ووجّهت الجماعة من خلال حتحوت رسالة إلى الإدارة الأمريكية تؤكد قدرتها على تقديم العون الجيد لواشنطن في إطار امتصاص غضب الشباب المسلم، وتحويله إلى نشاط إيجابى بعيدًا عن سلبية الجماعات المتطرفة، شريطة أن تدعم أمريكا الجماعة في مواجهة تلك الحكومات الديكتاتورية، على حد توصيفهم.
التعاون يخرج للعلن:
استمرت اللقاءات في الانعقاد، ولكن بشكل سرى حتى كان احتلال العراق عام ٢٠٠٣، الذي طالب خلاله المرشد العام السابع للجماعة محمد مهدى عاكف، والمنسق السابق للعلاقة مع الأمريكان، جناح التنظيم الدولى في العراق المكون من كل من: «الحزب الإسلامى العراقى بقيادة محسن عبدالحميد، والاتحاد الإسلامى الكردستانى بقيادة صلاح الدين بهاء الدين»، بالتعاون مع الحاكم الأمريكي آنذاك، بول بريمر، والمشاركة في الحكومة الانتقالية التي شكَّلها عقب سقوط النظام العراقى مباشرة، وهو ما تسبب في خلق أزمة داخل التنظيم الإخوانى بالعراق، وتدخل "عاكف" بوصفه المرشد العام للتنظيم الدولى، لاحتواء تلك الأزمة، وأصدر قرارًا ملتويًا يؤكد أن مشاركة الإخوان في الحكومة الانتقالية تمثل شأنًا داخليًا للجماعة في العراق، الأمر الذي ترتب عليه استقالة عدد من إخوان العراق المعارضين تلك المشاركة آنذاك، وتشكيلهم جيش الخلاص الإسلامي، بينما قام بعضهم بتكوين جبهة علماء المسلمين برئاسة حارث الضاري، الذي التقى "عاكف" مرتين بالقاهرة، وطالبه بضرورة التدخل لإنهاء علاقة الحزب الإسلامى بحكومة بريمر، ولكن "عاكف" رفض للمرة الثانية، معتبرًا أن ذلك الأمر شأن داخلى يخص العراقيين وحدهم.
واتساقًا مع موقف الجماعة في العراق، استمرت المخططات الإخوانية في مصر في فتح جسور الحوار مع الأمريكان، وبدأ الإخوان في الاتصال بالدكتور سعد الدين إبراهيم، وقام وفد من الجماعة بزيارته في منزله بالمعادي عقب خروجه من السجن، خاصة أن سعد الدين قد أقام علاقات جيدة ببعض قادة الإخوان الذين لازموه في السجن، وأقنعوه بضرورة القيام بدور الوسيط لتقريب وجهات النظر بين الإخوان والأوروبيين، وهو ما حدث فعلًا عقب خروجه من السجن، حيث رتّب للقاء عُقد في مارس ٢٠٠٣ في النادي السويسري، الكائن بحي إمبابة بالجيزة.
وحضرة من الجانب الغربي دبلوماسيون أوروبيون من سفارات بريطانيا وسويسرا والسويد ومن جانب الجماعة وفد رفيع المستوى ضم كلا من: «محمد مرسي رئيس الهيئة البرلمانية للجماعة آنذاك، وعصام العريان عضو مجلس شورى الجماعة، والصحفى محمد عبدالقدوس»، ودار الحوار حول إمكانيات وصول الإخوان إلى السلطة، والأجندة السياسية التي يحملونها حال وصولهم إلى الحكم، وموقفهم الحقيقى من الغرب، وقضايا الديمقراطية، وحرية الرأى والتعبير.
كان الإخوان يعتبرون تلك اللقاءات جزءًا من سيناريو عام وضعته الجماعة من أجل فتح قنوات اتصال مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لإقناعهما بقبول بأن يكون للتيارات الإسلامية دور محورى في المنطقة، على غرار التعاون الذي حدث بين الأمريكان والأحزاب الإسلامية في تركيا وباكستان، إضافة إلى الهدف الأهم، المتمثل في الحصول على وعد بدعم سياسي أمريكى في حال الوصول إلى الحكم، والضغط على النظام في مصر لتقبل الوجود الشرعى للإخوان.
وتكرر السيناريو نفسه مع د. سعيد النجار الذي زاره عدد من الإخوان للاستفادة من علاقاته الجيدة وتوجهاته الليبرالية، لعقد لقاءات مع مسئولين في الخارجية الأمريكية، لكنهم لسبب ما لم يفاتحوه في الموضوع صراحة بعد انتقال الحوار إلى موضوعات خلافية كثيرة بعيدة عن أهداف اللقاء، وبقى في برنامج الإخوان لقاءات مع الكاتب مأمون فندى وتوماس فريدمان.
على الصعيد نفسه، برز داخل الجماعة تصور آخر للإسراع في إجراء تفاهمات مع الإدارة الأمريكية، عن طريق التنسيق مع الإخوان في أمريكا، وخصوصا د. حسان حتحوت، رئيس إحدى أكبر المنظمات الإسلامية في أمريكا، وهو أحد تلاميذ حسن البنا المخلصين، بما له من علاقات جيدة بالمؤسسات الأمريكية، حيث كان أول من استقبل الرئيس جورج بوش الابن في المركز الإسلامى التابع له بعد أحداث ١١ سبتمبر مباشرة، كما أسلفنا، وبدأ الإخوان بالفعل اتصالاتهم، وكان من المقرر أن يسافر أحد أعضاء مكتب الإرشاد إلى أمريكا للقاء بعض القيادات هناك، خصوصا المسئولين عن ملفات الشرق الأوسط، ولكن حرب العراق أجلت هذه الترتيبات.
لم تشارك الجماعة في أي تصعيد لصد الاحتلال الأمريكى في العراق، بل أسهمت بتعليمات من مرشدها العام محمد مهدى عاكف في تثبيت دعائمه، عن طريق دفع إخوان العراق للانضمام إلى حكومة بريمر.
تصريحات «رايس وهاس» وغيرهما فضحت أهداف واشنطن من وراء حوارها مع التنظيم، فقد كان الهدف واضحًا، وهو المساهمة في خلق فوضى في المنطقة تساعد على تنفيذ إعادة ترسيم المنطقة، وهو ما جرى على أساسه الحوار اللاحق عام ٢٠١٠ واستكمل في ٢٢ يناير ٢٠١١ بين مرسي العياط ومندوب جهاز المخابرات الأمريكية ورئيس محطتهم في إسطنبول، تلك الاتصالات التي رصدها جهاز أمن الدولة وألقى القبض بناءً عليها على "مرسي" ورفاقه وأودعهم السجن ليلة ٢٧ يناير، تمهيدًا لعرضهم على النيابة بعد هدوء الأوضاع، ولكن حدث ما كان مخططا له وتم اقتحام السجون وإخراج مرسي وتنفيذ السيناريو المتفق عليه.
ولكن كان لا بد من وجود حواضن في المنطقة تساعد وتحمي وتموّل.
ووقع الاختيار، بدون أدنى جهد على قطر، لتقوم بذلك الدور وفيما بعد تركيا.. ولكن السؤال لماذا قطر؟
الدور القطري لماذا؟
كان الأمريكان يبحثون عن حاضنة للتنظيم الذي ستكون له اليد الطولى في تنفيذ خطتهم على الأرض، خاصة في حال حدوث انتكاسة ما للخطة أثناء تنفيذها.
حاضنة لها علاقات تاريخية بالتنظيم وكذا علاقات وثيقة بأمريكا وطموحات غير مشروعة تحتاج إلى قوى عظمى لتحقيقها ووقعت ضالتها على قطر، ولكن لماذا قطر؟
كانت شبه الجزيرة القطرية قد تعرفت مبكرًا على الإخوان المسلمين، عندما استقبلت أولى موجاتهم المهاجرة من مصر بعد أحداث الصراع المرير مع عبدالناصر سنة ١٩٥٤، واستقبلت الموجة الثانية بعد مذبحة حماة السورية ضدهم عام ١٩٨٢، أما الموجة الثالثة فجاءت من شمال أفريقيا (تونس والجزائر وليبيا) في تسعينيات القرن الماضى إثر نشوب الصراع بين حكومات هذه الدول، والإسلاميين، وذلك عندما انقلب الجيش الجزائرى على المسار الانتخابى الذي فازت فيه جبهة الإنقاذ الإسلامية بالأغلبية، وحلّ زين العابدين بن علي محل الرئيس الحبيب بورقيبة العجوز، كما انقلب معمر القذافى في ليبيا على الإسلاميين، لفشل مشروعه «الفيلق الإسلامى في الصحراء الأفريقية» وحصوله بالمال على النفوذ المبتغى داخل قصور الرؤساء، وشيوخ القبائل في المنطقة.
وتدفقت الموجة الرابعة من الإسلاميين على قطر من السعودية التي ضيّقت الخناق عليهم بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية في الولايات المتحدة، ومن قبلها التفجيرات الإرهابية أيضًا في الأراضى السعودية نفسها، في الخبر والرياض والدمام، التي ثبت منها أن أغلب إرهابيي ذلك اليوم إما سعوديون، أو ذوو روابط مع جهات سعودية.
كانت الخطوة الأولى هي تأسيس منتدى الحوار الأمريكى الإسلامى عام ٢٠٠٤ برعاية وزارة الخارجية القطرية، وأصبح المنتدى محفلًا سنويًا لالتقاء الخبراء والمسئولين الأمريكيين، بجميع أطياف الإسلام السياسي، تمهيدًا لاختيار الشريك الإسلامى للاستراتيجية الأمريكية في الوقت المناسب.
تأسس أيضّا في قطر، الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، وهو منظمة يترأسها يوسف القرضاوى، الذي كان هو نفسه أحد لاجئى الإخوان إلى قطر منذ عشرات السنين، لكن دوره السياسي لم يكن ليبقى مستقلًا حتى النهاية، فقد انبرى يدافع عن المصالح والتوجهات القطرية في كل مكان وزمان.
وكمبادرة قطرية خالصة أسست الحكومة القطرية «مشروع النهضة» للتدريب والنشر والندوات والمحاضرات، وأسندت قيادته إلى جاسم سلطان المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في قطر، ولكن بعد أن قررت الجماعة حل نفسها بذريعة أن الحكومة القطرية القائمة تطبق من تلقاء ذاتها برنامج الجماعة، وتساعد "سلطان" نفسه على ترويج هذا البرنامج في جميع الدول الإسلامية، من خلال فروع جماعة الإخوان المنتشرة فيها، وفى المقدمة منها الجماعة الأم في مصر.. وتتذكرون جميعًا أن المشروع الذي طرحه الإخوان في مصر كأساس لدعايتهم الانتخابية، كان اسمه مشروع النهضة! بغض النظر عن أنهم عادوا وقالوا إنه لا وجود لمثل هذا المشروع.
وقد استضاف مركز جاسم سلطان «للنهضة» معظم قيادات الإخوان المصريين لتدريبهم على العمل من خلال المنظمات الديمقراطية، بدلًا من التركيز على التسلل عبر المجتمع للسيطرة أو الهيمنة، وتخرج على يدى المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في قطر إخوانيون بارزون، منهم طبيب الأطفال هشام مرسي، حامل الجنسية البريطانية، وزوج ابنة يوسف القرضاوى، الذي أسس بدوره مركزًا سماه «أكاديمية التغيير»، التي لعب من خلالها دورًا رئيسيًا في ثورة يناير المصرية، بعد أن قرر الإخوان الالتحاق بها، وتخرج في برنامج سلطان للنهضة «علي السلابي»، وهو مّن وصفته صحيفة واشنطن بوست بالمهندس الحقيقى لترتيبات الحكم في ليبيا بعد الثورة، وعاش في قطر عدة سنوات، وهو من تلاميذ الشيخ القرضاوى، وصرح بأنه طلب مساعدة قطر في الأيام الأولى للثورة الليبية.
الإخوان وقطر و«الربيع العربي»:
هناك حالة من الغموض تكتنف العلاقة بين قطر والتيارات الإسلامية الصاعدة قبل وبعد أحداث الربيع العربى على وجه العموم، والإخوان المسلمين في مصر على وجه الخصوص، وتلك العلاقة تثير مخاوف مشروعة حول طبيعة تلك العلاقة والثمن المقابل لها؛ في ظل مخاوف وأطروحات حول السعى القطرى للسيطرة على مقدِّرات الوطن، واستغلال الظروف الاقتصادية والأعباء التي تمر بها المنطقة ومصر لتمرير مخططاتها وأطماعها تجاه مصر.
فلقد تعاطت قطر مع أحداث الربيع العربى بشكل مختلف تمامًا عن بقية دول الخليج التي حركتها مخاوف العدوى؛ لقناعتها بوجود مؤامرات أو عدم وجود نية وطنية خالصة في دعوات التغيير، وقامت قطر بتبنى دعوات التغيير عبر الآلة الإعلامية والدعم المادى والدولى.
ويتضح ذلك جليًا في العلاقة بين دولة قطر والنظام الحاكم في تونس، والذي يأتى على رأسه حزب النهضة التونسى، فوزير الخارجية التونسى رفيق عبدالسلام، كان رئيسًا لوحدة الدراسات والأبحاث في مركز الجزيرة بالعاصمة القطرية الدوحة، كما أن والد زوجته، راشد الغنوشى، هو رئيس حزب النهضة التابع لجماعة «إخوان تونس».
كما شهدت السياسة الخارجية لقطر تغيرًا كبيرًا فيما يتعلق بالتعامل مع الثورة الليبية التي ساندتها الدوحة بالأموال والسلاح، وشاركت طائراتها في الغارات الجوية لقوات حلف شمال الأطلسى (ناتو) على ليبيا، كما انتشرت قواتها البرية في ليبيا، وساهمت مع المعارضة الليبية في قتالها ضد قوات القذافى.
ويبدو ذلك أكثر وضوحًا في تصريحات مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الوطنى الانتقالى الليبى، التي أكد فيها أن نجاح الثورة الليبية يعود بشكل كبير إلى قطر، مشيرًا إلى أن قطر أنفقت ما يقرب من مليارى دولار في ليبيا، فالاستثمارات القطرية في ليبيا تبلغ قيمتها ١٠ مليارات دولار، كما أنها وقّعت اتفاقات جديدة مع ليبيا بـ٨ مليارات دولار عندما كانت الحرب لا تزال مستمرة هناك.
بذلت قطر الكثير من الجهود والأموال لحرمان السياسي محمود جبريل (القومى الليبرالي) من رئاسة الحكومة الانتقالية، رغم فوز التحالف الذي أسسه بأغلبية مقاعد المؤتمر الوطنى الليبى، وذلك بتكتيل كل الآخرين ضده، والسبب في رأيه فضلًا عن ضمان النفوذ القطرى في ليبيا- هو عدم قيام حكومة غير منتمية للإسلام السياسي، ومنتمية إلى القوميين والليبراليين في دولة غنية بالنفط مثل ليبيا، تستطيع أن تدعم القوميين والليبراليين في بقية دول الربيع العربى، خاصة في مصر، وذلك في مواجهة الدعم القطرى للإسلاميين، مما ينذر بانهيار سريع لاستراتيجية الارتباط الأمريكى البناء بالإخوان المسلمين.
أما بالنسبة للعلاقة مع سوريا، فإن الرغبة القطرية الواضحة في الإطاحة بنظام الرئيس السورى، بشار الأسد، تأتى من أجل إقامة نظام آخر ترأسه جماعة «الإخوان السورية»، وهو هدف تدعمه تركيا أيضًا، بالإضافة لتمكين الجماعات المتطرفة، مثل داعش وجبهة النصرة، في بسط نفوذها على سوريا بالوكالة عنها.
الطريق إلى ٢٥ ينايــر ٢٠١١:
في عام ٢٠٠٦ أي قبل إرهاصات ما سمى بـ(الربيع العربي) بخمس سنوات، أرسل السفير الأمريكى في القاهرة فرانسيس ريتشارد دونى برقية إلى وزارة الخارجية في واشنطن بتاريخ ١٦ مارس ٢٠٠٦ تحت عنوان (سري)، وقد أرسلت البرقية في وقت كان فيه قادة أمريكا يصنفون مصر (بالدولة الصديقة والحليف الاستراتيجي)!
تقول البرقية: «إن النظام المصرى يتأهب للموت، وينبغى التعجيل بوفاته أو إنهاكه عبر إصابته بألف جرح، وهو ما سمى بسياسة (الألف جرح في مصر)».. وتضيف البرقية: «على الأرجح لن يكون من الممكن إحراز تقدم ديمقراطى كبير طالما بقى الرئيس مبارك في منصبه، ومع هذا فإن حكمه القاسى يوفر مساحة ويعطى وقتًا لإعداد المجتمع المدنى وبعض مؤسسات الحكومة المصرية كمرحلة تسبق رحيله، وليس لدينا حل ناجح لكل شيء، ولكن يمكننا الضغط من أجل التغييرات التي ستؤدى حتمًا إلى الموت عن طريق ألف جرح صغير لنظام مصر السلطوى الاستبدادى، باعتماد سياسة (الخدعة الجماهيرية).
وتشير البرقية إلى أن المؤسسة العسكرية ستكون عبئًا على التغيير، وتوقعت البرقية أن تزداد شعبية جماعة الإخوان، لأنهم يقدمون خدمات اجتماعية لا تقدمها الحكومة المصرية نفسها، وثقتهم بأنفسهم تتزايد».
صفقة ٢٠٠٥ برعاية أمريكية:
سبق تلك البرقية التي أشرنا إليها صفقة تمت بين الإخوان ونظام مبارك قبيل الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٥، دفع إليها انعدام قدرة الحكومة المصرية الحد من نشاط الإخوان في الشارع عبر اتباع السياسة الأمنية المعروفة بسياسة تقليم الأظافر، في ظل رقابة أجنبية صارمة ومخططات أجنبية ترى أن الوقت مواتٍ للتدخل في شئون البلاد الداخلية، وهو ما حدا بالحكومة إلى السعي لإجراء اتفاق مع الجماعة يتضمن الإفراج عن المعتقلين من كوادر الجماعة شريطة اشتراك الإخوان في الانتخابات وعدم مقاطعتها لإكسابها نوعًا من الشرعية.
ولم يكن وقوف الجماعة خلف أيمن نور في الانتخابات الرئاسية وتأثيرها على النتيجة بحصوله على أكثر من نصف مليون صوت، إلا لتحقيق العديد من الأهداف، في حينه:
الأول: إيصال رسالة إلى النظام أنه بإمكان الجماعة التأثير في أي انتخابات وإنجاح أي مرشح حتى ولو كانت شعبيته ضعيفة في الشارع.
الثانى: إيصال رسالة إلى الغرب وخاصة الولايات المتحدة مفادها أنها جماعة تؤمن بالأفكار الليبرالية، ولا يتعارض ذلك مع برنامجها الإسلامى.
الثالث: إسقاط نعمان جمعة - رئيس حزب الوفد - والذي عارض أحقية الإخوان في إنشاء حزب سياسي.
بدايات الصدام:
كانت بدايات تعكر صفو العلاقة بين النظام وجماعة الإخوان، قضية ميليشيات الأزهر، تلك القضية التي حملت رقم ٩٦٣ لسنة ٢٠٠٦ (تمويل الإخوان) (ورقم ٢ عسكرية لسنة ٢٠٠٧).
حيث قام طلاب الإخوان في جامعة الأزهر يوم ١٠ ديسمبر ٢٠٠٦ بعمل استعراض مماثل لطوابير عرض الميليشيات العسكرية، وارتدوا أغطية سوداء على رءوسهم تحمل كلمة «صامدون»، والبعض منهم قام بتغطية وجهه لإخفاء هويته، والبُعد عن الرصد الأمني، وذلك على خلفية فصل ٧ طلاب «إخوان» من الجامعة، واكتشفت فرق المتابعة الأمنية أن قيادات الجماعة قامت بتشكيل لجان تنظيمية تضم العناصر الطلابية المنتمية لها، وتكليف كل لجنة بمهام محددة بهدف تحقيق الانتشار الأفقى في أوساط القطاعات الطلابية بجامعة الأزهر، وهو ما لم يكن متفقًا عليه بين الطرفين.
انتخابات مجلس شورى ٢٠١٠:
بعد فشل جلسات الحوار بين الجماعة والأحزاب والقوى السياسية، في تشكيل جبهة للتصدي للنظام قرر الإخوان العودة إلى حضن النظام وإطلاق بالونة اختبار لقياس قابلية النظام للحوار مرة أخرى.. رشحت الجماعة ثلاثة من نوابها في مجلس الشعب ليخوضوا انتخابات مجلس الشورى التي جرت في يونيو ٢٠١٠، ولكن النتيجة جاءت مخيبة لآمال الجماعة بعد فشل مرشحيها الثلاثة في الفوز بأى مقعد، على الرغم من وجودهم كنواب داخل مجلس الشعب لمدة خمس سنوات متتالية.
شعرت الجماعة بالأزمة فبدأت في الاستجابة للحوار العميق مع الأمريكان حول الإطاحة بالنظام، وشرعت في الاتصال بمندوبي واشنطن في تركيا للحصول على التعليمات.
كانت التعليمات واضحة، مقاطعة الانتخابات البرلمانية في ٢٠١٠ وركوب موجة البرادعى التي التف حولها الكثير من القوى السياسية، والدفع باتجاه أحداث يناير إلى قمة الصدام.
تقارير أجهزة المعلومات:
رصدت أجهزة المعلومات المصرية، العديد من التحركات لعدد من أجهزة المخابرات الأجنبية، وبصفة خاصة الأمريكية، كما شهدت نشاطًا ملحوظًا لعناصر تلك الأجهزة في ميدان التحرير.. إبان الأحداث.. وكانت التقديرات الأمنية، تؤكد أن ثمة حدثًا كبيرًا تستعد له البلاد على غرار الأحداث في تونس، وتم عرض تلك التقديرات بتاريخ ٨ يناير ٢٠١١ على القيادة السياسية بمعرفة المشير حسين طنطاوى، الذي كانت لديه تخوفات طبقًا لتقارير جهاز المخابرات الحربية، تشير إلى أن الحدث قد يخرج عن نطاق التظاهرة إلى نطاق العصيان المدنى، وعلى الفور صدرت توجيهات القيادة العامة للقوات المسلحة برفع حالة الاستعداد اعتبارًا من يوم ٢٠ يناير ٢٠١١.
٢٣ يناير ٢٠١١:
توجهت في ذلك اليوم بعثة عسكرية مصرية برئاسة الفريق سامى عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لحضور المؤتمر السنوى للتنسيق والتعاون العسكري المصرى الأمريكى، وهو المعنيُّ بالبحث في جميع أنواع التعاون لكل الأفرع والأسلحة ويهتم بتحديد المطالب وتقييم ما تم إنجازه، ويشار إلى أن الزيارة المشار إليها كان مخططًا لها شهر أكتوبر ٢٠١٠، وتم تأجيلها لكون الموعد المحدد كان يواكب انتخابات مجلس الشعب المصرى، وهو ما يستدعى أعمال تأمين وحماية تتولاها القوات المسلحة بإشراف رئيس الأركان. وقد فوجئ الفريق «عنان» عند وداعه في المطار بالرجل الثاني في القيادة العامة للجيش الأمريكي ينتظره في صالة الوداع في أحد المطارات العسكرية تمهيدًا للوصول إلى واشنطن، حيث يأخذ طيارته المتجهة إلى القاهرة.. يقول الفريق «عنان» إن الرجل انتحى به جانبًا وقال له بالحرف: ابعدوا الجيش عن حركة الشباب في الشارع ولا تتصدوا لتلك التظاهرات، فزوال حكم مبارك بات مسألة وقت.. وما يحدث في الميدان هو بداية النهاية.
لم يدرك «عنان» أن كل شيء كان مُعدًا وأن الفاعلين الرئيسيين كانوا قد ضغطوا على زر بداية تشغيل الخطة وأن ما بقى مسألة وقت.
كان لكل مشارك في الأحداث من الكُتل الكبيرة دوره المرسوم بدقة، الإخوان، البرادعي، ٦ أبريل.
وحدها تلك الأسر البسيطة والطيبة من شعب مصر العظيم التى خرجت بالآلاف تدعم شعارات حملت أوجاعها وطموحاتها، لم تكن على خط التماس مع هؤلاء المخططين والداعمين، لذلك كانت صدمتها عنيفة عندما كشفنا لها يومًا ما في برنامج "الصندوق الأسود" عُمق ما حدث وخطورته.