الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

درويش على أعتاب الوطن .. هو أنت مصري؟ (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
”تبقى الذكرى عالقة في الأعماق، كما الجنين في أحشاء أمّه، إلى أن يُوقظها رذاذ عطر الحنين، فتزدهر حروفًا كعشب الربيع من رحم الصخر، وتنهمر مفردات كفيض المطر، من قلم مداده حبّاتها المتناثرة، تمرق كصبية في أغوار ثنايا أسرارها تقتنص لحظات هامسة، وتجهر بها على دفّتي الأوراق، فكلما تمكنت من النسيان أزهرت روحي بالانين، وعدت كدرويش على أعتاب الوطن، فكلما قلت أنني ابتعدت أعود، فأين المسير وكل الطرق تؤدي إلى الذكرى، وكل الدروب بللها الحنين 
كنت قد توقفت في مقالي الماضي، عندما أوصلني السائق إلى ”الحمرا“، تاركا لى خلفه كارت يحتوي على رقم هاتفه الشخصي، ملوحا لي من نافذته قائلا: ”إن احتجت إلى شيء، لا تتردد في الاتصال بى“، ومضى إلى حيث ينتظره الزحام، تاركني بمفردي على مشارف عالم مكتظ بالمفردات، زاهي الألوان، أحلقَ بأجنحة الخيال، كان مؤشر الساعة يشير إلى الحادية عشرة مساء إلا ثلاث دقائق بتوقيت بيروت، بينما كان انسياب صوت مارسيل خليفة:”يا نسيم الريح قول الرشا لم يزدني الورد الا عطشا“، يفض عذرية صمت المساء، كانت الحجرة باردة بعض الشيء، ذلك البرد المنعش الذى يوقظ الأرواح المحتضرة، ويحرضها على البقاء، فقد بدا حينها كبرد الياسمين، لايخلو ارتعاشة تنثر عبير، انتفضت من مقعدى الدافى، وخلعت عنى غطاء البرد، وتسربت اناملى بحركة على ما اعتقد غير إرادية إلى المنضدة المجاورة لى لجذب علبة ثقابى، وأخرجت منها عود ثقاب، وأشعلته باشتياق، وما لبثت إلا أن تنفست نفسا عميقا لم يخلو من تنهيدة حارقة، لتعبق انفاسى اجواء الحجرة، وفي برهة من الزمن، نظرت إلى ساعتى الجلدية التى ارتديها بيدة اليسرى، فكانت الساعة ترنو إلى الحادية عشرة، فتمتمت بصوت منخفض: ”أى إدمان ذلك الذى توقظه بنضات قلبى تلك المدينة العابثة“.
فقررت الخروج بحثا عنها بين شخوصها، وبين اختمار الفكرة براسى، وتردد خطوات أقدامي الغريبة، نشبت معركة لم تتعدى بضعة ثوانى، حتى انتصرت الفكرة وخضعت اقدامى لنشوة الفكرة، كانت غرفتى بالاوتيل القابع بالحمرا اشبة بفوضى الياسمين، فقد تناثرت أحلامي وقطع من ذكرياتى وقطع من وطنى وقطع من ملابسى واوراقى واقلامى وعلبة ثقابى وسلسلة مفاتيحى في على كل جنبات الغرفة، وبعد لحظات تأمل لا تخلو من شرود ارتديت ملابسى، وهرولت بخطوات مسرعة من أعلى سلم البهو الرئيسى للاوتيل، كانت النظرات تصوب إلى من موظفى الاستقبال باندهاش بالغ، وكان ظل وطني يلبسني فأبقى تحت سيطرة سحره الأخاذ.
وانطلقت من بوابة الاوتيل الرئيسية، كعصفور للتو لاذ بالفرار من قفصه الذهبى، تنفست عبق رائحة المدينة بعمق، حتى حصدت راسى المشتعلة، بثمار القطفة الاولى من زخات المطر، فكنت أبدو عاشق مبتل هرع كالمجنون تحت المطر بدون مظلة، كنت على يقين تام باءننى سوف اتعثر بـ لقائها، فمشطت شارع الحمرا من بدايته، كنت اتقافى آثار أقدامها، بين خطى العابريـن، كانت واجهتى رائحتها، 
فأنا أعرفها جيدا وقد أجزم أننى اتنفسها، ظللت أتقفى أثر عطرها في مداخل البيوت الثابتة المطلة على شاطئ المجد، بين ثقوب الطلقات المخلفة من سنوات الحرب، كنت اسمع في تجويف ثقوب الرصاص رنات ضحكاتها، جلست على المقاعد العامة تحت المطر لأنه تخيل لى انها جلست هنا منذ عدة اعوام، فإني لم أكن أحبها فقط، فقد كنت اؤمن بها، مثلما كان الفارس القديم يؤمن بكأس النهاية يشربه، وهو ينزف حياته، كنت اؤمن بها كما آمنت بالوطن، كان يحزننى الحنين، وتقتلنى برودة الشارع وطقوسة الجميلة التي ذهبت ولم تعود، كانت الوجوة المكتظة السائرة في اعين ليل الحمرا تزاحم المساء، وعلى الرغم من ازدحامها الا أنها لم تمنعني من رؤيتها“