الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومى يكتب.. عباقرة الظل.. محمد توفيق.. أستاذ يتقن المهنة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قلائل في تاريخ فن التمثيل السينمائى المصرى من يستحقون لقب «الأستاذ»، ولا بد أن يكون «الأستاذ» محمد توفيق في طليعة هؤلاء.
ليس في شهرة الأساتذة حسين رياض وزكى رستم ومحمود المليجى ومحمود مرسي، على سبيل المثال، لكن الأستاذية لا تقترن بالنجومية، فهى حصيلة الإبداع الصادق المتوهج الذى يتجاوز فكرة البطولة التجارية، وثيقة الصلة بشباك التذاكر والموقع الذى يحتله الاسم في أفيشات الدعاية.



محمد توفيق أستاذ يتقن المهنة ويحبها، مسلحا في عمله بالموهبة والعلم والوعي. يعرف جيدا ما يفعل، ويهرول بعيدا عن السطحية والنمطية والافتعال والانفعال الزائف. لا شك أنه كان يستمتع بالتمثيل، ويضمر في أعماقه استياء مبررا من النجوم وأشباه النجوم الذين لا يتقنون الصنعة، لكنه لا يملك شيئا في مواجهة طوفان الابتذال والسوقية الرخيصة.
----
العبقري
في الأدوار المعقدة المركبة ذات الأبعاد العميقة المتشابكة، يصل العظيم محمد توفيق إلى القمة التى يعز على غيره الاقتراب منها، ويلقن الدروس لمن يتوهمون أن التمثيل «همبكة» وشعر مصفف وتأنق أجوف.
عن رائعة إميل زولا: «تيريز راكان»، يقدم توفيق العبقرى دورا فريدا فذا في «لك يوم يا ظالم»، ١٩٥١، للمخرج الكبير صلاح أبوسيف. زغلول موظف صغير، ساذج معتل الجسد والعقل والروح. زيجة فاشلة مع فتاة جميلة تتعذب بالحرمان، ويظهر صديق كذوب خبيث فيفسد الحياة الهشة ويقود العليل المأزوم إلى الموت غرقا. الشخصية على هذا النحو ليست بسيطة سطحية، والانحراف في الأداء قائم حال التركيز على المعطى الشكلى الظاهري، لكن الممثل القدير ينجو من فخ الأداء أحادى الجانب، ويرتفع بزغلول إلى مقام إنسانى جدير بالإشفاق والتعاطف. ليس المستهدف أن تحبه أو تكرهه، وعند قتله غدرا يقترب الحزن المبرر من الوقوف على حافة الحب.
بعد أكثر من ربع قرن، ١٩٧٧، يعيد صلاح تقديم الفيلم باسم «المجرم»، ويئول دور توفيق إلى محمد عوض، وعندئذ تُستعاد المقولة التراثية الشائعة: أين الثرى من الثريا؟
مع صلاح أبوسيف أيضا، يقدم محمد توفيق دورا تاريخيا جديدا في «الوحش»، ١٩٥٤. قرنى زوج ضعيف خانع مسلوب الإرادة، يرضى بدور القواد الخصوصى للجبار محمود المليجي، عشيق الزوجة سامية جمال. تغريه الشرطة بالتعاون معها للإيقاع بالوحش، وتعده بالحماية، لكن الانتقال من الخنوع المزمن إلى التمرد الشجاع ليس ميسورا. في المواجهة بين قرنى والوحش يتبارز العملاقان، المليجى وتوفيق، في مباراة تمثيلية من طراز رفيع. بارتعاش العينين وارتجاف الشفتين وتهدل اليدين، يعبر قرنى عن انكساره، ويهاجر سريعا من خندق الشجاعة المؤقتة التى لا يملك مؤهلاتها، ولا يشك المشاهد لحظة أن أعماق توفيق غير المرئية ترتجف، وليس الجسد وحده.
دور صغير لا يتجاوز عدد مشاهده أصابع اليد الواحدة، لكنه يزلزل مشاعر المشاهد ويترك فيه أثرا لا يزول. إنه الصدق الذى يصنع الفارق، والموهبة الأصيلة التى لا تنتجها ماكينات الدعاية الفجة.


شخصية المدمن، كما ينبغى أن تكون، يجسدها محمد توفيق ببراعة في «المعلمة» و«الأخ الكبير»، ١٩٥٨. رؤية حركية ونفسية واعية، تنعكس على أسلوب الأداء المنضبط. انسحاق مبرر بالاحتياج المدمر الذى يتطلب إشباعا فوريا، دون تفكير في الثمن المدفوع. المدمن عند الفنان المتمكن، حالة إنسانية معقدة، ذلك أنه مريض يرفض الشفاء، ومهزوم مأزوم يجد في الانكسار متعة غامضة يكره أن تغادره. التحالف بين الصوت ولغة الجسد يقود إلى إقناع حتمي، ويفضى بالمشاهد إلى الدعاء للمدمن وليس الدعاء عليه.
................
حسن، عبيط الحارة في «السوق السوداء»، ١٩٤٥، وابن صبيحة في «حسن ونعيمة»، والتابع المطيع للدجال المحترف في «المبروك»، ١٩٥٩، ومحمد خادم اللوكاندة الشعبية المتواضعة في «الطريق»، ١٩٦٤، والأسطى حسن الحلاق في «قنديل أم هاشم»، ١٩٦٨؛ نماذج ثرية لقطاع عريض من الهامشيين المهمشين القابعين في قاع المجتمع المصري. يبدع محمد توفيق في التعبير الصادق عن عوالم هؤلاء الضائعين المحاصرين بالفقر والتعاسة وقلة الحيلة، كأنه واحد منهم. الاستقرار في الهامش الخانق الضيق مشترك يوحدهم ويقرب بينهم، والتفرد عند توفيق يتمثل في إدراكه الواعى العميق بخصوصية كل واحد منهم وفرديته في السمات والملامح، جراء الموقع الذى يحتله والظروف الموضوعية المحيطة به، ما يستوجب إضفاء بصمة خاصة على الأداء.
قد يكون حسن «عبيطا» ساذجا محدود الذكاء وفق المقاييس التقليدية الشائعة، لكنه ينتمى إلى الحارة بفطرة نقية، مسلحا بحس إنسانى رفيع يقوده إلى الإيثار والتضحية والعمل الإيجابي، وصولا إلى محطة الموت-الاستشهاد، وهو المصير نفسه الذى ينتهى إليه ابن صبيحة، الرجل البريء الذى يشبعه ويسعده تحقق الآخرين.
عمل طفيلى قوامه الخداع والاحتيال في «المبروك»، وظيفة متواضعة في «الطريق»، حرفة شعبية تختلط بالخرافة والطب الشعبى في «قنديل أم هاشم»؛ وجوه متشابهة بلا تماثل، والهوية واحدة. لا يقنع محمد توفيق بالانتصار الفنى الحاسم لإنسانيتهم المحاصرة بالتحديات والعقبات والعكارات، بل إنه يحرض المشاهد على مشاركته في الإيمان بإنسانيتهم، ويحثه على تجاوز الأحكام سابقة التجهيز، التى تفضى عادة إلى التعالى واللامبالاة.
لا أحد من هؤلاء يحتل الصدارة في الأفلام المشار إليها، ولا اكتمال للبناء الفنى بمعزل عنهم في الوقت نفسه. الملح سلعة زهيدة الثمن، ولا مذاق للطعام إلا به. هذا ما يرسخه أداء الأستاذ القدير، كأنه يهمس برقة وصلابة: المجد لملح الأرض.
................


شخصية حافظ، والد فؤادة في «شيء من الخوف»، ١٩٦٩، بمثابة الدور الأعظم للفنان المتمكن خلال مشواره الطويل مع السينما. في العمل الناضج الشجاع متقن البناء، عبر لغة سينمائية لا يصعب وصول رؤيتها السياسية للعاديين من الناس، بصحبة كوكبة من الأفذاذ، يتوهج محمد توفيق فيوشك المشاهد أن يرى ويسمع تقلصات أمعائه من فرط البراعة في تجسيد الارتباك والخوف عندما يواجه الطاغية الشرس عتريس، محمود مرسي، ولا يملك إزاءه إلا الرضوخ المذل المهين. المشاهد التى يظهر فيها توفيق جديرة بأن تُدرس في معاهد وأكاديميات التمثيل، فالأمر عنده ليس كلمات حوار تُقال، أو محاولة للاقتراب من انفعال زائف وتقمص سطحى هش مصنوع، بل هى المعايشة التى ينفصل بها عن العالم ومن فيه. إنه «حافظ» كما ينبغى أن يكون، الأب والخوف والكذب الاضطرارى والحسرة المدمرة بعد فوات الأوان.
التمثيل عنده علم وفن وموهبة، وبالنظر إلى تاريخه يمكن إدراك السر في تفرده واختلافه. في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، يسافر توفيق في بعثة لدراسة فن التمثيل في المملكة المتحدة، وهناك يتتلمذ على يد الفنان الأسطورى لورانس أوليفييه. يعمل مخرجا بالقسم العربى في هيئة الإذاعة البريطانية، ويعود إلى مصر ليشارك عبر عقود متتالية في مئات الأفلام والمسلسلات، فضلا عن عمله الأكاديمى في معاهد التمثيل بمصر وبعض البلدان العربية.
الأستاذ الاستثنائى خارق الموهبة رفيع الثقافة، المؤهل برؤى واعية عن الحياة والفن معا، يعشق التمثيل ويرى فيه الزاد الذى لا غنى عنه، فكيف لمثله أن يعتزل ويتقاعد؟.
العظيم الجاد صاحب الرسالة، المولود سنة ١٩٠٨، يعبر عامه التسعين، ويقترب من الخامسة والتسعين، محتفظا بحيويته الفنية والروحية، كأنه شاب في العشرين. ما أروعه وأعمقه في «سوبر ماركت»، ١٩٩٠، و«عيون الصقر» و«أرض الأحلام»، ١٩٩٢، و«عفاريت الأسفلت»، ١٩٩٦، وصولا إلى «بدر»، ٢٠٠٣، قبل شهور من الإغماضة الأخيرة لعينيه المعبرتين.
...................
يذكرنى محمد توفيق دائما بالمدرس الكفء المتفانى في عمله، تتخرج على يديه أجيال من الأطباء والمهندسين والقضاة والضباط ورجال الأعمال، ممن يتفوقون عليه ماديا واجتماعيا. يبقى الأستاذ القديم صاحب الفضل مدرسا مغمورا يتقاضى راتبا هزيلا، ويسكن شقة متواضعة، ويركب الأتوبيس والمترو، ولا تتبدل ملابسه وهيئته النظيفة الفقيرة المتواضعة. لا شيء يعيب أو يسيء ويشين، ذلك أن السؤال الجوهرى الذى ينبغى طرحه: ألا يشعر المدرس بالرضا والسعادة لأنه يؤدى الواجب كاملا بلا تقصير؟!.
هذه هى المسألة.