الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المنفلوطي بين الأصالة والاجتراء "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
درج النقاد على النظر إلى الحكماء والفلاسفة والمفكرين من زاويتين: أولاهما مدى التزام المفكر بنهجٍ يكفل لآرائه وتصوراته النسقية والاتساق، أما الزاوية الثانية الوقوف على أثر تلك الأفكار في مجتمعه بخاصة وميدان النظر أو الحقل المعرفى والبنية الفلسفية بعامة، وذلك كله لتقييم الفيلسوف من حيث الأصالة والاجتراء.
وقد تعددت دلالات مصطلحى الأصالة والاجتراء في معاجمنا العربية؛ فنزع بعض اللغويين إلى أن الأصيل هو ثابت المنبت وعريق الأصول شأنه شأن الأصيل الثابت القديم، وذهب البعض الآخر إلى أن الأصالة هى موطن الجِدّة والطرافة والابتكار والاجتهاد. وعرفت المعاجم الاجتراء بأنه أقرب إلى الشجاعة منه إلى التهور؛ فالمجترئ على المعتقدات والقيم البالية والأوضاع الفاسدة والأمور الغامضة، هو الشجاع المجتهد والحاذق، أما الجاحد لثوابت العقل الجمعى ومشخصات الهوية هو الثائر المتهور الناقم على واقعه والمتطاول على أساتذته ودونه مكانة ورفعة.
وبهذه المعايير وصفت جل كتابتنا «أفلاطون» بأنه فيلسوف على الأصالة ووصفت «لوثر» و«فولتير» و«هيوم» على أنهم فلاسفة مجترئون، وفى ثقافتنا العربية وُصف العلماء والمتفلسفة والأدباء الموسوعيون بأنهم حكماء ورؤساء أهل الرأى وأهل الدربة والدراية، ومنهم «الفرابي»، «ابن سينا»، و«ابن رشد». وفى العصر الحديث لقب «حسن العطار» وتلاميذه ومنهم «رفاعة الطهطاوي»، و«محمد عياد الطنطاوي» بالشيخ الفقيه الحكيم. وأطلق على «محمد عبده» لقب الأستاذ الإمام.
وقد ميّز النقاد بين الفلاسفة والحكماء أرباب الاتجاهات والمدارس والمنابر والمشروعات، وبين المثقفين أصحاب الرؤى والخطابات النقدية، وذلك تبعًا لأصالة المنهج وعمق الأفكار وفاعلية الخطابات والقدرة على تطبيق المشروعات التى ساهمت بدورها في إصلاح المجتمع وتجديد المعتقدات وتطوير وتحديث المتغيرات، بالإضافة إلى قوة سهامهم وسعة دلوهم في مناقشة القضايا الخمس الرئيسية في الفكر العربى الحديث، ألا وهى (التراث، التجديد، الوعي، الحرية والإصلاح).
ومن هذا السبيل، يمكننا تقييم فكر «مصطفى لطفى المنفلوطي» بوجه عام فنجده من أكثر معاصريه أصالة في محافظته على المشخصات والهوية من جهة، والأسبق في التواصل مع الأغيار لتجديد البالى من الأفكار وتحديث ما علق في الأذهان من معارف وتطوير ما ألفه المثقفون من نهوجٍ وآليات وبرامج وتصورات.
شأنه في ذلك شأن «الشيخ حسين المرصفي (نحو 1810م-1889م)»، و«محمد فريد وجدي (1878م-1954م)»، و«محمد لطفى جمعة (1886م-1953م)»، و«أحمد حسن الزيات (1885م-1968م)».
فجميعهم لم يدرج في قائمة الفلاسفة بالمعنى التقليدي، غير أنهم كانوا من أكابر المفكرين الموسوعيين، وقادة الرأى في الثقافة المصرية، وكان لهم أثر لا ينكر في تطوير المجتمع وتحديثه، وتجديد الفكر العربى الإسلامى في العصر الحديث، رغم إدراجهم ضمن المحافظين، الأمر الذى نفعنا لتناول أفكارهم بالشرح والتحليل في المقالات التالية.
أما «المنفلوطي» فحسبنا أن نلقى مزيدًا من الضوء حيال موقفه من قضية (الأنا والآخر) أو «الفلسفة الغيّرية» أو الفكر الوافد الجديد والتسامح الفكرى مع المخالفين، وذلك ليكون دليلًا متممًا على وجهته الإصلاحية ونزعته التجديدية رغم ارتدائه عمامة المحافظين الأزهريين.
فها هو يصف المتعصب لدينه والمنتصر لرأيه والمحافظ على وجهته بأنه ذلك الذى يعمل بمقتضى ما يؤمن به فلا يحيد عنه ولا يكفر به إلا إذا ثبت له زيّف ما كان يعتقد وإفك ما ألف تصديقه، وإن جاء برهان الحق على لسان الأغيار أو في حكمة المخالفين.
أما الأحمق هو المنكر دومًا لكل ما يناقض ما يعتقد دون أدنى تدبر أو تعقل بل ويُمعن في مناصبة العداء لمخالفيه ومناظريه حتى وإن كان الحق معهم.
فهو يتفق في ذلك مع «جمال الدين الأفغاني (1838م-1897م)» في تأكيده أن العصبية ليست بالضرورة تعنى العنف وبغض الأغيار، فالجانب الإيجابى منها هو التمسك والانتماء والاجتماع والاتحاد بالأصيل من المشخصات والعمل بمقتضاه دون كراهية أو عنف تجاه الرأى المناقض لما يعتقد.
فكلاهما ينهى عن الانتصار للباطل أو الإجماع على الأمر المشكوك في صحته، أو التطرف في الخصومة، الأمر الذى يرهب من حرم الله الاعتداء على أعراضهم وأموالهم وحقن دمائهم.
ويميز «المنفلوطي» بين التهاون والتسامح، فالتهاون في رأيه هو ترك كل ما يجب التمسك به والحفاظ عليه والانتصار له والحرص على تفعيله من المكارم والفضائل، أما التسامح فهو «لين الجانب ومسالمة المخالفين، بحيث لا تعد تلك الفروق الدينية التى بينه وبينهم وسيلة إلى بغضهم أو مناضلتهم، أو نصب الغوائل لهم، أو سد سبل العيش في وجوههم.
والغضب لا يخرج من دائرة الرذائل إلا إذا كان دفاعًا عن الحق أو صونًا للكرامة.
ولعل هذه الكلمات والعبارات المتناثرة في كتابته وأقواله تكشف عن دقته وحرصه على تحديد المفاهيم وتقويم ما علق في الذهن من أوهام السوق (الألفاظ التى يجريها العوام)، وأوهام المسرح (المصطلحات التى ترد في أحاديث المشاهير).
والتدين في رأيه من الفضائل إذا كان صاحبه يأمر بالمعروف بغير منكر وينهى عن المنكر بالمعروف، ويعمل المتديّن بمقتضى ما يأمر به دينه، وما ينهى لمنفعة الناس وصلاح أحوالهم، ومن أقواله في ذلك «الدين لا يزال غريزة من الغرائز المؤثرة في صلاح النفوس وهداها حتى يتمرد على الإنسانية ويعتزلها فإذا هو شعبة من شعب الجنون».
ويرد «المنفلوطي» على كل من يدعى أن الانتماء للوطنية يتعارض مع الولاء للدين، مبينًا أن للولاءات درجات وحلقات متشابكة، فالانتماء للوطن لا ينبغى أن يدفع المرء لمعادة الجيران أو التعصب للدين إلى درجة كراهية الأغيار من المواطنين فالطائفية ضد الوطنية والدين معًا. «الوطنية لا تزال عملًا من الأعمال الشريفة المقدسة حتى تخرج عن حدود الإنسانية؛ فإذا هى خيالات باطلة وأوهام كاذبة».
«من لا خير له في دينه لا خير له في وطنه، لأنه إن كان بنقضه عهد الوطنية غادرًا فاجرًا فهو بنقضه عهد الله وميثاقه أغد وأفجر. وإن الفضيلة للإنسان أفضل الأوطان، فمن لا يحرص عليها فأحرى به ألا يحرص على وطن السقوف والجدران».
وحري بنا أن نتساءل: أليست هذه الأفكار خليقة بأن تدرج في برنامجنا المزمع تفعيله لتجديد ثقافتنا وتقويم أخلاقنا؟؟؟
وللحديث بقية..