الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

إيران بين خداع الخارج وبؤس الداخل

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رواية «لوليتا في طهران» ترصد تعرض الإيرانيين لصنوف القمع والهوان
الكاتبة «آذر نفيسى»: قمع الديكتاتوريات لا يقل ضررًا عن الحرب
منع الاختلاط يدفع الكاتبة لاختيار كل الشخصيات الرئيسية في روايتها نساء
رغم الصورة التى تبدو فيها دولة الملالى للبعض ندًا لجيرانها والقوى العظمى في العالم، ورغم محاولات استعراض القوة التى تمارسه طهران عبر التصريحات المحملة بالكثير من التحذيرات والوعيد والتهديدات التى تأتى على لسان مسئوليها البارزين بيد أن دولة الملالى ليست بالقوة التى تحاول أن تبدو عليها أمام الشعب الإيرانى من ناحية وأمام المجتمع الدولى من ناحية ثانية. وكل محاولاتها لاستعراض القوة ليست إلا أقنعة ترتديها لخداع مواطنيها في المقام الأول وخداع العالم في المقام الثانى. 
وبالنظر إلى الواقع الإيرانى من الداخل نكتشف أن طهران على عكس ما تحاول أن تبدو عليه وأنها تمارس لعبة الخداع والإيهام الذى تراهن عليهما في الصراع الدائر بينها وبين الولايات المتحدة من جانب وبينها وبين دول المنطقة.
إيران من الداخل أوهن مما تبدو عليه في تصريحات ومواقف مسئوليها، حيث إن الأوضاع الداخلية المتردية طالت الجميع ولم تسلم منها طبقة أو طائفة، هذا ما تكشفه الإحصائيات ووسائل الإعلام، لكن إذا ما طالعنا الروايات الإيرانية لعدد كبير من الكتاب والكاتبات لا سيما المقيمين خارج إيران نكتشف مآسى الشعب الإيرانى التى بدأت فصولها في أعقاب اندلاع الثورة الإسلامية وعودة الخومينى من باريس ليتولى زمام الأمور.



حرائق إيران بدأت من نوفلى لوشاتو
«لم يأتِ آية الله الخومينى إلى فرنسا كلاجئ سياسي، بل كان أجنبيًا يُقيم في فرنسا» هكذا جاء رد حكومة الرئيس الفرنسى الأسبق جيسكار ديستان على الانتقادات التى وجهها الشاه محمد رضا بهلوى لباريس لسماحها للخومينى بالإقامة على أراضيها، لا للعيش في سلام ولكن ليثير الاضطرابات في إيران. 
في البداية، ومن العراق، كان الخومينى يُحرّض أتباعه ليحركوا الشارع في وجه الأسرة البهلوية الحاكمة، الأمر الذى أزعج الشاه وتمنى أن يُقرر صدام حسين إعدام الخوميني، لكن صدام لم يحقق له أمنيته واكتفى بطرد العجوز المعمم بالسواد من بلاده؛ وقد قبل الشاه تصرف الرئيس العراقى قبولًا حسنًا.
كانت الكويت هى الدولة التى طلب الخومينى اللجوء إليها بعد أن أبدى له النظام العراقى رغبته في أن يغادر الأراضى العراقية وفى أقرب وقت.. «قلت للخومينى علينا أن نذهب إلى أوروبا، فبادئ ذى بدء لم نكن في حاجة إلى تأشيرات كى نقيم في باريس.. إنها مركز النشاط السياسى العالمى في أوروبا» هكذا قال إبراهيم يزيدى للخومينى الذى اقتنع بنصيحة مستشاره الخاص، واختار في النهاية أن تكون إقامته في باريس متراجعًا عن اختياره السابق للكويت.
وصل الخومينى إلى فرنسا وأقام في بيت منحه له أحد مؤيديه، ومن مكمنه هذا الذى لا يفصله عن العاصمة الفرنسية سوى ثلاثين كيلو مترًا، وبالتحديد من قرية «نوفلى لوشاتو»، واصل الخومينى إثارته للشعب الإيرانى وتحريضه لإسقاط حكم الشاه.
مع زيادة حدة الاضطرابات في إيران التى سقط خلالها مئات المتظاهرين، شعر «جيسكار» بالحرج أمام الشاه حليف فرنسا القوي، الأمر الذى اضطر معه أن يبعث «كلود شايى» مدير مكتب العلاقات الخارجية - وهو المسئول المكلف بشئون كبار الزوار الأجانب - كى يوجه لفت نظر للخومينى «كنت قد أطلقت تصريحات معادية ضد رئيس دولة تربطنا به علاقات دبلوماسية طبيعية، وليس من المناسب أن تفعل ذلك وأنت على التراب الفرنسي»، هكذا قال «شايى» للخومينى في بيته الذى تحول إلى مضخة للبيانات المُحرضة على الثورة في إيران، وعبر النَسخ الذى كان يقوم به أتباعه، كانت الرسائل تصل طهران، وعندما تفض تنتشر الاضطرابات في جميع أنحاء الأراضى الإيرانية.
«عليك يا صاحب الجلالة أن تتخذ إجراء الآن وإلا ستطيح بنا الثورة.. لقد بدأنا نخسر البلاد!» بهذه العبارة نصح الأدميرال حبيب الله، الشاه محمد رضا بهلوى للحد من الفوضى التى عمت أرجاء إيران.. «إذن تريدنى أن أخالف الدستور؟! لقد ضقت ذرعًا بهذا كله»، هكذا قال الشاه وسار بعيدًا نحو نافذة قصره ليرى وترى معه إيران البداية الحقيقية للحرب التى أبعدته وأبعدت معه الإيرانيون عن بلادهم التى يعرفونها. كان ذلك في نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
«في الحرب، ليس هناك جندى غير مصاب» هكذا يقول الكاتب الأرجنتينى جوزيه ناروسكي. أما الكاتبة الإيرانية «آذر نفيسي» فلها في الحرب رأى آخر وهو «في الحرب، ليس هناك إنسان غير مصاب». ورأت أن القمع الذى تمُارسه الديكتاتوريات لا يقل ضررًا عن الحرب. القمع صورة أخرى من صور الحرب التى تمارس ضد البشر والأمكنة.


الملالى وبداية قلب الأوضاع رأسًا على عقب
لم تقل آذر نفيسى هذا بشكل مباشر، ولكن هذا ما توحى به روايتها «أن تقرأ لوليتا في طهران»، والتى قدمت حياة وسلوك الفرد والجماعة والحكومة في إيران، أو ما تعرف بـ«الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، وهو الاسم الذى أطلقه الخومينى في زمن ثورته التى وصفها بــ«الإسلامية».
ومنذ هذا الزمن تبدلت الأحوال في البلاد حتى باتت البلاد غير البلاد. عن هذه التحولات والمتناقضات والقمع للمغايرين جاءت رواية «نفيسي» التى تدور حول أستاذة جامعية، تستقيل من جامعتها لتنظم صفًا دراسيًا لمجموعة من الطالبات المحبات للأدب؛ ومن خلال مناقشتهن عددًا من الروايات وما تتضمنه من وقائع وأحداث تتماس بشكل أو بآخر مع الوقائع والأحداث في إيران، يعرف القارئ كم تحمل الإيرانيون صنوف القمع والهوان.. ولماذا يثورون هذه الأيام ضد دولة الفقيه وحكم الملالي، ولماذا حطموا تماثيل الخومينى ومزقوا صوره في الشوارع والميادين.
تبدأ الحكاية في «أن تقرأ لوليتا في طهران» بالأستاذة الجامعية التى استقالت من عملها وتفكر في تكوين مجموعة من الطلبة والطالبات لتدرس لهم الأدب في بيتها. وعلى الرغم من خطورة الموضوع؛ حيث الاختلاط ممنوع منعًا باتًا بأمر حكومة الجمهورية الإسلامية، لكنها انتقت مجموعتها بعناية ممن تثق بمحبتهم للأدب ويتمتعون بإيمان كبير بالطاقة الهائلة للروايات والكتب. لم يكن هذا الانتقاء كافيًا لتمنح المعلمة ثقتها لطالباتها، ففى المجتمعات المنغلقة والمكبلة بالقيود والشروط يغيب الإنسان ولا يكون هناك ضمير حى لأحد. ربما لهذا حكت لهن في لقائهن الأول عن «الآنسة جين برودي» لميريل سبارك، ثم سألتهن: «من منكن سوف تخوننى في آخر المطاف؟». السؤال كان صاعقًا على الطالبات.. فهو إهانة. أما بالنسبة لى كان طبيعيًا وعاديًا، لكنه -رغم عاديته- إلا أنه أثار دهشتى وربما حنقي: كيف لمجتمع وحكومة لا تُدينان سوى العمالة في كل خطاباتها خاصة للغرب. والعمالة، كما أفهم، تعنى الخيانة؛ فكيف لمجتمع يُحرّم الخيانة ولا يستبشع جرمًا آخر أكثر منها، ومع ذلك لا يخشى أفراده شيئًا أكثر منها، ويتوقعها في أى لحظة من أصدق أصدقائه وأقرب أقربائه؟!
شيئًا آخر يجعل سؤال المعلمة عاديًا، وهو ما قالته «نسرين» إحدى الطالبات ردًا على سؤال معلمتها: «ولم لا؟ وأنت نفسك قلت لنا إننا جميعًا في المحصلة النهائية خائنون لأنفسنا، فكل منا يضمر في داخله يهوذا لمسيحه الخاص!».
«لوليتا في طهران» لـ«آذر نفيسي» ليست رواية أو مؤلفًا أدبيًا فحسب، بل هو تسجيل لكل الإساءات التى توجه ضد الإنسان بشكل عام، وما ارتكبته سلطة الملالى في حق الشعب الإيراني، وما سببته له من تشوهات جسدية ونفسية عبر الحروب التى خاضتها وتخوضها هنا وهناك من أجل أفكار لا تُناسب سوى الرءوس الصغيرة المدفونة في عمائم سوداء.
لا تتوقف الرواية عند تصوير حياة المقموعين من المغايرين للثابت والراسخ في العقل الجمعى لـ«الجمهورية الإسلامية»، لكنها تُعطينا ملامح من الحياة الشخصية للمعلمة المستنيرة والمتمردة على أفكار ردت المجتمع للوراء وحولت أفراده إلى أشباح، وكيف عانت هذه المعلمة ومن على شاكلتها من مضايقات وتعنت السلطة الدينية القامعة لأى مغاير. كما تفتح الرواية أمام قارئها عالمًا من الحكايات الآتية من بلاد سلطوية، ولا تقل دموية وتطرف سلطاتها الحاكمة عن السلطة في إيران؛ هذه الحكايات قدمتها عبر روايات عظيمة سجلت جرائم السلطات المستبدة ووقع هذه الجرائم على أفراد شعوبها (اجتماعيًا- سياسيًا- دينيًا). من هذه الروايات التى ضمنتها «آذر نفيسي» روايتها: «ربيع الآنسة جين برودي»، و«١٩٨٤»، و«دعوة لضرب العناق»». وعلى الرغم من الضحايا الذين تكتظ بهم هذه الروايات.. ضحايا العنف والقمع والاستبداد، لكن تظل هذه الروايات عاجزة عن أن تكون مرآة حقيقية لواقع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.. المرآة الحقيقية لواقع إيران الملالى هو روايتها.. «لوليتا».
ترى «آذر» أن أهمية الأدب -خاصة في المجتمعات التى يكون فيها كل شيء مطمورًا ومخفيًا وكامنًا وراء حجاب- تتلخص في إظهاره للحقيقة وليس تصويره للواقع «لأن ما نبحث عنه في الأدب ليس هو الواقع تمامًا، وإنما هو الاحتفاء بإظهار الحقيقة» هكذا قالت لطالباتها.
اختارت الكاتبة كل الشخصيات الرئيسية في روايتها من النساء، ويستطيع القارئ أن يُخمّن من الوهلة الأولى أسباب اختيارها هذا، والتى قد يكون من بينها: كيف تكتب عن شخصيات ذكورية تُشارك بطلاتها الأحداث كتفًا بكتف في مجتمع ممنوع فيه الاختلاط، فضلًا عن اعتلاء الرجال كل السلطات: في البيت والشارع والعمل وقصر الحكم. فلا وجود للرجل.. بل سلطة الرجل.. شبحه المخيف. ثمة سبب آخر يفسر لى لماذا اختارت الكاتبة كل شخصياتها الرئيسية من النساء، وهو أن أوضاع المرأة في أى مجتمع توضح في أى مرحلة من مراحل تطور وتقدم المجتمعات يقف هذا المجتمع.
تصف «آذر» طهران بـ«الغائبة» لصالح الحضور العنيف للرجال والملالى والأردية وأغطية الرأس السوداء التى ترتديها النساء، وهى الملابس التى تقرها قوانين البلاد «لن تكتمل حكايتى من دون أن أمر بأولئك الذين لم يكونوا معنا طوال الوقت، أو أنهم لم يتمكنوا من البقاء. فقد ظل غيابهم حاضرًا فينا مثل ألم مبرح يوخز المشاعر من دون أن يكون له سبب عضوي. وهذا ما تعنيه لى طهران تمامًا: فغيابها يبدو أكثر حقيقة وعمقًا من حضورها».
«نسرين» إحدى الطالبات في صف المعلمة لم تكن غير صورة حية لطهران التى تفتقدها الكاتبة، والتى كلما نظرت إليها وجدتها «ضبابية، مشوشة بعض الشيء، وأحس بأنها بعيدة بطريقة أو بأخرى. وإذ أستعرض كل الصور التى التقطتها مع طالباتى عبر السنوات، أجد نسرين هناك حاضرة في الكثير منها، بيد أنها تبدو دائمًا، وهى متوارية وراء شيء ما.. شخص ما.. شجرة.. عمودًا..!».
من غرفة طعامها التى يؤطر شباكها «جبال البُرز» صنعت المعلمة عالمها الخاص، جعلت منها بديلًا مستقلًا يسخر من واقع الإيشاربات السود والوجوه المذعورة والعقول المنغلقة ولا تسمح بالتفاهم مع الآخر أو قبوله.
كان اجتماع المعلمة بطالباتها في هذه الصومعة بمثابة انسحاب للمثقفين والفنانين، وعندما يغيب هؤلاء قسرًا أو طوعًا تدب العشوائية في أرجاء المدينة، والعشوائية بالطبع لا تفضى إلا إلى العنف والكراهية والنكوص إلى الوراء دون أمل في الغد، فمن البدهى أن تتحول المجتمعات المحكومة بالأوامر والنواهى التى لا تقبل خلافًا أو مناقشة بزعم أنها إلهية.. من البدهى أن تتحول إلى ملعب أو منصة متينة لإعلان الحرب..الحرب على الأفكار وأصحابها.. الحرب على المكان وحضارته ومكتسباته.
يا لفجيعة الحروب ويا لكثرة الضحايا.. والضحايا ليسوا هم من فقدوا عضوًا من أعضاء جسدهم في المعركة فقط، بل أيضًا يُعّد ذويهم وعائلاتهم ضحايا لهذه الحروب التى تصيبهم بالهلع والحزن الشديدين، ثم بلادة لا نهائية، ثم تعطش للدم.. للثأر!
تؤكد «آذر» في روايتها أن الحروب لا تأتى على الإنسان فقط ولا على المكان فقط وإنما تأتى على روحهما.. روح الإنسان وروح المكان. فكما للإنسان روحا كذلك للأماكن روح تدمرها الحروب لحظة اندلاعها: «كانت الحديقة الأمامية لجارنا، قرة عينه، ومدعاة سروره، هى الضحية الأكبر لغارات زوار المستشفى، خصوصًا أيام الصيف، حينما ينجح الأطفال في الوصول إلى زهور الورد الجوري، الأعز على قلب جارنا، كنا نستطيع أن نسمع صراخ الصبية وبكائهم وضحكاتهم يتناءى إلينا ممزوجًا بأصوات الأمهات وهن يستصرخن أولادهن ويهددنهم بالعقاب». تحكى «آذر» عن أخيها الذى كان يقيم في الطابق الثالث من منزل عائلتها، لكنه غادر إيران نحو إنجلترا دون إشارة واضحة عن حيثيات الخروج، لكن في وسط هذه الأجواء المخيفة والجحيم المنذور للمغايرين لا نحتاج شرحًا من الكاتبة لظروف خروج شقيقها من البلاد. وعلى الرغم من تحمل الإيرانيين النصيب الأكبر من ثمن تغيير المجتمع عنوة ومن الحروب التى خاضها نظام العمامة السوداء سرًا وعلنًا، إلا أنهم ظلوا مُهمشين يجلسون هناك بعيدًا.. خارج المشهد تمامًا، ولا أحد يشعر بوجودهم إلا عبر أصواتهم التى كانت تتصاعد من هناك في المستشفى. الأفكار الجانحة في أى مجتمع دائمًا ما تُلقى بظلالها على الحياة العامة والخاصة.. الحياة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما تصفها «آذر»: «تُشبه تقلبات الطقس في شهر نيسان، السويعات القصار لإشراقة الشمس وهى تفتح الباب لزخات المطر والعواصف التى يثيرها المتشددون عبر مجموعة من القوانين الصارمة».
لم تسلم الجامعات من عواصف المتشددين كما تروى الكاتبة: «كانت جامعة العلامة الطباطبائي، حيث كنت أعمل منذ عام ١٩٨٧، قد تميزت بكونها الجامعة الأكثر ليبرالية من بين جامعات طهران. وسرت شائعة تفيد بأن أحد المسئولين من وزارة التعليم العالى تساءل باستنكار ما إذا كان منتسبو الكليات في جامعة العلامة يظنون بأنهم يعيشون في سويسرا!
وكانت كلمة «سويسرا» قد أصبحت تعبيرًا شائعًا لوصف الانحلال في الغرب. وصار أى برنامج أو نشاط غير إسلامى يستهان به بإطلاق عبارة ساخرة تقول: «إن إيران أصبحت سويسرا من دون شك!».
وبما أن العقاب بات في إيران هو الأعلى صوتًا، أصبحت الجامعات مسرحًا تقدم عليه كل صنوف العقاب للطلاب والطالبات الخارجين عن أبسط وأتفه القواعد: «فإذا ما أسرعت طالبة لتلحق بالدرس، عاقبوها على الهرولة! وإذا ضحكت عاقبوها على الضحك في الممرات! وأيضًا يعاقبونها إذا ما ضبطت وهى تتحدث مع أحد من الجنس الآخر!».
لا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، إذ تحكى «آذر» عّما حدث لإحدى طالباتها على يد أمن الجامعة: «ذات يوم اقتحمت «ساناز» قاعة الدرس قبل نهاية المحاضرة بقليل وهى تبكي. ومن بين سيل دموعها المنهمرة استطعت أن أفهم أنها تأخرت لأن حارسات البوابة عثرن على أحمر خدود في حقيبتها عند التفتيش، وكن قد حاولن إعادتها إلى البيت مع كتاب توبيخ!».
هذه الضغوط والإجراءات المشينة هى ما دفعت «آذر نفيسي» للاستقالة من الجامعة؛ حيث لا أمل في أية محاولة إصلاح. لا أمل إلا في ثورة عارمة تزيح الفقيه من فوق كرسى الحكم ليعيش الإيرانيون حياتهم هم لا حياة الملالي. وعلى الرغم من تقديم استقالتها لكنها لم تسلم من المضايقات سواء بالتجسس عليها وعلى ضيوفها، أو بالحد من نشاطها، وبالمماطلة في منحها استحقاقاتها كأستاذة جامعية: «كان قد مر عامان كاملان قبل أن يوافقوا أخيرًا على منحى الاستقالة. أتذكر صديقًا قال لى ذات يوم: حاولى أن تفهمى طريقة تفكيرهم، فهم لن يوافقوا على الاستقالة؛ لأنهم يعتقدون أنه لا يحق لك ترك العمل معهم فهم وحدهم أصحاب القرار. ولهم الحق وحدهم في تقرير المدة التى يجب عليك البقاء فيها والتوقيت الذى سيتم الاستغناء فيه عن خدماتك». استقالت «آذر». نعم. ولديها مبرراتها: «فكيف لنا أن نقوم بالتدريس كما يجب حينما يكون أقصى اهتمام لمسئولى الجامعة منصبًا على لون شفاهنا. وعلى القابلية التدميرية لخصلة شعر يتيمة قد تطيش من تحت الإيشارب، وليس على كفاءتنا في أداء واجباتنا العلمية، كيف يمكن للمرء أن يركز في عمله فعلًا، حينما يكون الشغل الشاغل للمسئولين في الكلية هو حذف كلمة «نبيذ» من قصة هيمنجواي؟ أو حينما تكون من أولياتهم إصدار قرار بمنع تدريس «برونتي»؛ لأنها كما اتضح لبعض المسئولين، «تتغاضى» عن فعل الزنى؟!».
تحكى المعلمة عن رسّامة بدأت طريقها بتجسيد مشاهد من الحياة اليومية، وبخاصة: غرف مهجورة، أو بيوت مقفرة، أو صور فوتوغرافية قديمة لنساء وحيدات. وشيئا فشيئا أصبحت أعمالها تميل أكثر نحو التجريد. وفى معرضها الأخير كانت الأعمال عبارة عن بقع متناثرة من الألوان الصارخة.. بقع سوداء تشوبها قطرات صغيرة من اللون الأزرق. وحينما سألتها المعلمة عن سبب تحولها من الواقعية الحديثة إلى التجريد، أجابتها: لقد أصبحنا نعيش واقعًا لا يطاق، واقعًا أسود قاتمًا إلى حد أننى لن أستطيع بعد الآن إلا أن أجسد لون أحلامي.
استطاعت المعلمة في صفها الخاص أن تجمع مجموعة من الطالبات، ورغم اختلافهن سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا، إلا أنهن كن منفردات وممتلئات بالطاقة الخلاقة بسبب عدم انتمائهن إلى أى جماعة أو طائفة بعينها، فقد كانت لديهن قدرة مذهلة على مواصلة الحياة، لا على الرغم من عوالمهن الانعزالية، وإنما بسببها. اقترحت «مانا» - إحدى طالبات آذر نفيسي - أن يُطلقن على هذا الصف الحديث والمغامر اسم «الفضاء الخاص بنا» في إشارة إلى فرجينيا وولف والغرفة الخاصة بها. تحكى الكاتبة عن طالبتها «مهشيد» التى كانت تضع فراشة على فستانها الأبيض الذى ترتديه أسفل ردائها الأسود الفضاض، وعندما رأتها المعلمة قالت لها: أتضعين هذه الإشارة احترامًا لنابوكوف؟ وأنه يمكنها أن تخلع رداءها الأسود فلا رجال في البيت ليطاردوا فراشة فستانها الأبيض. و«مهشيد» ابنة لرجل كان من المؤمنين بضرورة الثورة على الشاه فأقنعها بالحجاب الذى ارتدته قبل مجيء الخومينى إلى السلطة؛ فكانت تشعر بالتجاهل وبأنها منبوذة من زميلاتها. وبعد حكم الخومينى سجنت خمس سنوات بسبب انضمامها لأحد الأحزاب الإسلامية المنشقة، ثم حرمت من العودة للدراسة عامين كاملين عقب إطلاق سراحها وصارت منبوذة أيضًا.
إن الثورة التى فرضت الحجاب على الأخريات لم تستطع أن تحرر «مهشيد» من وحدتها؛ وكما ترك السجن ندوبًا في روحها ترك لها أيضا عجزًا في إحدى كليتيها، لتواصل حياتها بكلية واحدة.
يقول نابوكوف: نشهد بالتجربة الحية كيف يمكن لحصاة عادية في حياتنا اليومية أن تستحيل جوهرة ساطعة إذا ما نظرنا إليها عبر العين السحرية للأدب.
ونحن نقول من جانبنا:.... للأدب ولـ«أن تقرأ لوليتا في طهران».