الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حجابٌ بلا عزلة وسفورٌ بلا تبرج -3-

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا عدنا لحديث «المنفلوطي» عن قصة صاحبه المفتون بنموذج المرأة الأوروبية وقضية حجاب المرأة المصرية وما ينبغى على المجتمع فعله تبعًا لمقتضيات الواقع والأوضاع القائمة آنذاك، فسوف نجد أن ذلك الصديق لم ينصت إلى «المنفلوطي» ولم يتعقل حجته التى لخصها في «أن كل نبات يزرع في أرض غير أرضه أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه وإما أن ينشب فيها فيفسدها».
فالثقافة الأوروبية قد أفلحت إلى حدٍ كبير في تهيئة المرأة والرجل للعيش في تلك الحياة بحرية لا قيدٍ فيها سوى الإلزام والالتزام. فالأول يمثله سيف القانون العادل الباطش بلا هوادة لكل مخالفيه، والثانى ولِد في كنف التربية والعلم والقناعات الشخصية والوعى بالمسئولية.
أما المرأة المصرية فلم تنعم بذلك ولم يظفر مجتمعنا الشرقى بهذا الذى نحلم به وصوت العقل يحذرنا من تجاهل مثل هذه الأمور.
ويكمل «المنفلوطي» حكايته فذكر أن ذات يوم من بعد ثلاث سنوات مضت - على حوارهما- رأى صاحبه يمضى مع شرطى إلى قسم البوليس لأمرٍ يجهله، فسأله «المنفلوطي» عن أهله فأجاب صديقه بأن زوجته لا يعرف أين تكون ولا علة غيابها فربما قد أصابها مكروه، فذهب معه «المنفلوطي» ليطمئن على حاله، وفى القسم أخبرنا المأمور بأنه وجد زوجة صاحبه مع رجلٍ في بيت مشبوه وزعمت أنها في ولايته وبعد لحظات دخلت المرأة علينا بصحبة من كانت معه فإذا بصاحبى يعترف بأن المرأة هى زوجته ورفيقها أحد أصدقائه، ثم أغُشى عليه من هول الصدمة فحمله «المنفلوطي» إلى منزله وترك زوجته لتنصرف إلى بيت أبيها، ولما ساءت حالته من تلك الكارثة حاول مفكرنا إفاقته ففتح الصديق عينيه على صراخ طفله الرضيع فحمله بين ذراعيه وفى وجهه ارتسمت صورة المرتاب الحزين قائلًا ردوا هذا الطفل إلى أمه فليس لى ولدٌ ولا زوجة وأخبروا أهلها بأننى بددت الأمانة وأننى نادم على ما فعلت فأنا الذى أوصلت ابنتهم إلى ذلك المصير المنحط فكانت الخجولة، الشريفة العفيفة، فأمست على يدى المرأة الخائنة اللعوب حتى حسبها الناس من صاحبات الرايات الحُمر واعتقدوا أننى قوادٌ، أما أصدقائى فكانوا يقبلون على رغبة فيها وكنت في أعينهم ديوثًا فجنيت عليها وعلى نفسى باسم المدنية، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة جاءت زوجته لتودعه وتطلب منه الغفران والسماح وتنبئه صادقة بأن الولد من صلبه، فقد حملت به قبل أن تخلع برقع الحياء والعفة.
وبغض النظر عن حكاية «المنفلوطي» إن كانت قد حدثت بالفعل أو هى من محض خياله وقد ساقها لتعليم المتلقى وتبصير القارئ، فأحداثها ليست بالأمور الغريبة عن حياتنا الآن.
ثم ينتقل مفكرنا إلى الحديث عن آفة التقليد والتغريب مؤكدًا أن التجديد والتحديث والتمدن لا يعنى فتح النوافذ والأبواب دون ضابط أو حارس، لأن الهواء بالخارج لا يخلو من الجراثيم الضارة والأتربة المختلطة بالأمطار فتعكره وبالنسيم فتفسده، ومن ثم كان لزامًا علينا أن نهيئ أنفسنا بالعقل والعلم والحرية لنتمكن من الدفاع عن مشخصاتنا وترسيخ قواعد ثوابتنا الثقافية التى تعبر عن هويتنا ويقول: «لا يستطيع المصري، وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدنية الغربية إذا دنا منها إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك بقشره ويفلت لُبابه أو المصفاة حيال الخمر تحتفظ بعقاره وتهمل رحيقه، فخير له أن يتجنبها وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب».
يريد المصرى أن يقلد الغربى في نشاطه وخفته.... فإذا جد الجد دب الملل إلى نفسه..... يريد أن يقلده في رفاهيته فلا يأخذ منها إلا حانات الخمر.... يريد أن يقلده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها والطنطنة بشعاراتها، وإذا سُئل عن البرهنة عليها والعمل من أجلها أسلم رجليه إلى الرياح وهرب متملقًا..... يريد أن يقلد الغربى في العلم فلا يعرف منه إلا كلمات يرددها بين شدقيه، أما جوهر المعرفة فلا يظفر منه بما يروى إغاثة الظمآن.... يريد أن يقلده في تعليم المرأة وتربيتها، فيقنع بعلمها الذى يمكنها من كتابة في جريدة أو خطبة في محفل، ويرتضى من تربيتها التفنن في الأزياء والمقدرة على سحر النفوس واستلاب الألباب بدلالها وتبرجها.... هذا التقليد المشوه يشبه تقليد جهلة المتدينين الذين يقلدون السلف الصالح في تطهير الثياب وقلوبهم ملآى بالأقذار.... لا مانع من أن يعرب لنا المعربون المفيد النافع من مؤلفات علماء الغرب، على أن ننظر إليه نظرة الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم....».
وانتهى إلى أن غايتنا من تحرير المرأة يجب أن نضعها نصب أعيننا أثناء وضعنا للبرنامج التربوى والأخلاقى والتعليمى لتحريرها من حجاب الجمود والجهل والخرافة، وأن تكون توعيتنا لها توجيهًا وليس تلقينًا فتنبت أخلاقها التزامًا وليس إلزامًا ويصبح سفورها عرضًا لا يخدش كرامتها وشرفها ولا يقضى على حيائها وعفتها.
وعليه فحسبنا أن نثبت أن تجديد «المنفلوطي» لم يكن عشوائيًا أو شعارًا غير واقعي بل هو في الواقع برنامج نسقى ومشروع حضاري.
وللحديث بقية.