ظلت الأغنية المصرية حتى منتصف القرن العشرين تعبر عن علاقات عاطفية غير عادلة، فهناك العاشق القاسى المستبد الهاجر الذى لا يعبأ بالدموع والآلام، وهناك الحبيبة المظلومة المنسية… أشواق وأحزان وحيرة وظنون.
فكان الشعراء يتجهون نحو تمجيد الخنوع والذل في الحب، وتعظيم قيمة التسامح وقبول غدر الحبيب وهجرانه مهما فعل، فغنى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: «أحبه مهما أشوف منه.. ومهما الناس قالت عنه أحبه.. شغلنى والأمل خانى وحير كل أفكارى.. سقانى الكاس وراح فاتنى.. لا أنا سكران ولا دارى.. بيظلم في وبحبه.. وقاسى على وبحبه.. أحبه مهما أشوف منه.. ومهما الناس قالت عنه.. أحبه».
تلك هى المشاعر التى عبرت عنها الأغنية حتى جاء العم بيرم التونسى في أوائل الخمسينيات من القرن الماضى، ليكشف لنا ويعبر عن مشاعر أخرى وعلاقات عاطفية أقل ظلما، وأحاسيس لم تكن مطروقة وقتئذ، ألا وهو إحساس الكبرياء لدى المرأة العاشقة.
فكان اللقاء بين الشاعر الكبير بيرم التونسى والموسيقى المتميز محمود الشريف هو لقاء التجديد والحداثة في الأغنية، ومعهما الصوت الساحر للمطربة ليلى مراد:
«من بعيد ياحبيبى بسلم.. من بعيد من غير ما أتكلم.. علمونى أصبر وإداري لوعتى وأدينى بتعلم... أفتكرك وأنت بعيد عنى.. وأنكرك وأنت قريب منى.. يسمعوا قلبى بيتأوه.. يسألوا وأنا أقول مش هو... بين عذابى واشتياقى.. قد أيه قلبى بيتألم».
كلمات جديدة، وشعور جديد مع جملة موسيقية، تمثل ثورة موسيقية، من حيث الشكل فكانت مذهبا وكوبليها واحدا فقط، ورغم أن الأغنية كانت مكتوبة لفيلم سينمائى بطولة ليلى مراد، فإن الأغنية تجاوزت الفيلم السينمائى، وباتت من أشهر أغنيات ليلى مراد في ذلك العصر.
وانفتح الباب مجددا للتعبير عن مشاعر جريئة بين المحبين وحوارات أكثر جرأة واحتراما وندية، وجاء ذلك مع الشاعر مرسى جميل عزيز، ليقدم أغنية حوارية على لسان المطربة فايزة أحمد، للحبيب الذى لا يستحق حبها وقلبها، وفى بداية غاضبة تقول كلمات الأغنية باستنكار:
«بتسأل ليه عليا.. وتقول وحشاك عينيا.. من أمتى أنت حبيبى.. ودارى باللى بيا؟.. يا للى بتسأل عليا ملكش دعوة بيا.. سيبنى لليالى أسهرها لوحدى.. سيبنى لذكرياتى وابعد عن خيالى يا أغلى ما عندى.. أيامك نسيتها ونسيتك كمان.. ورجع قلبى خالى.. دى حكاية وطويتها وكلام كان زمان.. راح ويا الليالى».
بتلك الكلمات ارتفع مستوى التخاطب بين الحبيبين، وتجاوز حدود الانكسار والآهات والأنين، إلى التحدى ورفض إهمال الحبيب غير المهتم، فبعدما كانت تغنى «غريبة منسية.. من يومى مظلومة.. من يومى محرومة».
ها هى تقول: «حاخاصم عينيا.. لو قابلت عينيك وقالت تشوفك.. واخاصم إيديا لو شاورت عليك.. لا عمرى هاعاتبك.. ولا هارجع لحبك.. ولا تسأل عليا»، توجه جديد أطلقه الشاعر للتأكيد أن الكبرياء أهم وأغلى من العواطف.
وفى هذا السياق الجديد للأغنية، هل علينا الشاعر والرسام والفنان صلاح چاهين، وكان ظهوره بمثابة ثورة في كلمات الأغنية، فمنحها مذاقا وإحساسا مغايرا، وعبر كذلك عن الكبرياء واللوعة في آن واحد، كما في أغنيته التى شدت بها فايزة أحمد صاحبة الصوت الدافئ الحنون، من ألحان كمال الطويل: «يا ما قلبى قال لى لأ.. وأنا ألاوعه لما قلبى انشق شق.. قلت أطاوعه.. كلمة منّى.. كلمة منّه.. اللى خاننى تُبت عنه. حتى لو يوم قلبى رق مش ح اطاوعه».
كشفت الأغنية البديعة عن براعة چاهين كمؤلف، وتحمل الكلمات موقفا حادا وصريحا وجريئا، فالحبيبة تغلبت على مشاعرها واتخذت قرارا حاسما بعدم السماح والغفران رغم العذاب والحب معا:
«يا ليالى خبى حبى، في بحورك البعيدة يا ليالى.. أنا حبيته وما قدرتش أخبى، وعاهدته وهو خيب لى آمالى.. بكرة حا يجرب أسايا وأنا باتهنى بهوايا.. خللى حبى لحد تانى، حد يستاهل حنانى. حتى لو يوم قلبى رق مش ح اطاوعه».
صراع عاطفى في قلب الشاعر بين ضعفه وحزنه من ناحية وكبرياء قلبه من ناحية أخرى، فهو لن يرق مهما جرى ولن يطاوع ذلك القلب الرهيف مهما حدث.
وفى أوائل الستينيات غنت سيدة الغناء العربى أم كلثوم أغنيتها الجديدة والغريبة:
«حب أيه اللى أنت جاى تقول عليه… أنت عارف قبله معنى الحب أيه»، من كلمات محمد عبد الوهاب، وألحان بليغ حمدى.
وهنا ظهرت السخرية والتوبيخ للحبيب الذى لا يدرك معنى الحب الذى يتحدث عنه، وتواصل الست: «أنت ما بينك وبين الحب دنيا.. دنيا ما تطولها ولا حتى في خيالك.. أما نفس الحب عندى حاجة تانية.. أنت فين والحب فين؟ ظالمه ليه دايما معاك؟».
كلمات تدعو الحبيب الظالم لإعادة النظر والكف عن الظلم، فما أجمل الندية والمساواة في الحب والعلاقات العاطفية.
وفى منتصف الستينيات، يأتى الشاعر حسين السيد برؤية جديدة وبصوت محمد عبد الوهاب الذى صاغ وجدان الأجيال المتعاقبة: «لأ مش أنا اللى ابكى والا أنا اللى أشكى.. لو جار على هواك.. ومش أنا اللى اجرى وأقول عشان خاطرى.. وأنا لى حق معاك».
هنا يتخذ الحبيب موقفا جديدا، حوار أشبه بمحاكمة، فهو يطالب الحبيبة بحقه المسلوب، وعلى الحبيبة أن تمنحه حقه وألا يفقد كرامته وكبرياءه.
وفى العقد الذهبى الستينيات ذاته، جاء الشاعر كامل الشناوى بمشاعر مختلفة، فهو ثائر على قلبه وعواطفه وشكوكه، وهذه المرة بصوت العندليب عبد الحليم الرومانسى:
«كيف يا قلب ترتضى طعنة الغدر في خشوع.. وتدارى جحودها في رداء من الدموع
لست قلبى وإنما خنجر في الضلوع».
هكذا عبر كامل الشناوى عن جرحه وكبريائه، فكانت معانى جديدة وجميلة صاغتها موسيقى محمد الموجى الرائعة.
نعم اللى فات لا يعود، والعصر الذهبى للغناء ولى ولن يعود، كما شدت أم كلثوم في أغنيتها الشهيرة «فات الميعاد» من كلمات مرسى جميل عزيز، وتلحين بليغ حمدى:
«وعاوزنا نرجع زى زمان قول للزمان أرجع يا زمان».