الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عقل مصر.. ونقابها!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مرة أخرى قامت الدنيا ولم تقعد، وعادت قضية النقاب لتحتل صدارة الاهتمام والكلام في الإعلام وعلى مواقع السوشيال ميديا، وعاد الجدل القديم العقيم بين السلفيين والعلمانيين والليبراليين وكل من هب ودب في مصر، حول ما اعتبروه حرية العقيدة، والحريات الشخصية وأيضًا الصدام مع حرية المجتمع وأولوياته!
والحكاية كانت بطلتها هذه المرة، موظفة منتقبة في الثقافة الجماهيرية، أشعلت الجدل حول حقها في العمل كمديرة لقصر ثقافة كفر الدوار. والمشكلة لم تكن حول حقها الوظيفى في شغل منصب المدير، ولكن في جواز شغلها لهذا الموقع الذى يقوم بتقديم خدمة (ثقافية) للجماهير.
وكعادتنا في التعامل مع كل القضايا التى تمس الأديان من قريب أو بعيد، انشغل الإعلام المرئى والإلكترونى، ولا أبالغ إذا قلت انشغلت مصر كلها بحكاية موظفة كفر الدوار المنتقبة، وما إذا كان من حقها كإنسانة أن ترتدى ما تشاء، وهل من حق المجتع أن (يضطهدها) ويحرمها من اختياراتها؟!
هكذا تمت صياغة القضية وتسويقها ليلتهب حماس الغيورين على الدين أولًا، والمتعاطفين مع (الموظفة - الإنسانة) ثانيًا!، وللأسف لم يهتم جموع المتحاورين الغاضبين بالقضية الأهم الضائعة بين أقدام الطرفين وهى (الثقافة) نفسها!!،.. البضاعة نفسها التى من المفترض أن تقدمها الأخت المنتقبة للجماهير؟!!
واسمحوا لى أن أبالغ فأقول أن هذا البلد العظيم لم يعد يهتم كثيرًا بهذه البضاعة التى أتلفها الإهمال وضاعت في زحام التجارة الرائجة الآن باسم الفن والثقافة.. ونحن يجب أن نتحلى بالشجاعة ونكاشف أنفسنا، أين نحن من السينما والمسرح والموسيقى والغناء والكتاب؟!
.. أين نحن من الترجمة ومن إبداعات الفكر الإنسانى التى لا تصل إليها أيدينا ولا عقولنا ولا دخلت مدارسنا ولا جامعاتنا؟!
إن العالم مشغول الآن بالحديث عن أحدث إبداعات الجيل الخامس في التكنولوجيا وابتكارات الذكاء الصناعى التى دخلت مجال السينما والمسرح وخلقت خيالًا جديدًا وأجيالًا من المبدعين (الخارقين) الذين يشكلون وجه ثقافة عالمية مذهلة لم نصل إليها بعد!.. نحن مازلنا مشغولين بالنقاب الذى كنا نظن أن المصريين حسموا الحديث حوله منذ بدايات القرن الماضي، وها هو الراحل قاسم أمين يموت كل يوم بعد أن كان يظن أنه حرر المرأة المصرية قبل موته، وها هو المثّال العظيم محمود مختار صاحب (امرأة نهضة مصر) التى خلعت نقابها في ثورة ١٩١٩، يراها من قبره تعود إليه بل ويدافع عنها تيار شرس كنا نظن أنه اختفى مع زوال دولة الإخوان الدينية!..
إن القضية ليست في امرأة مصرية اختارت النقاب وأرادت من وراءه أن تقدم (ثقافتها) للجماهير، بل الأزمة الحقيقية التى تعانى منها مصر منذ منتصف القرن الماضى مازالت تدور حول (الهوية).. من نحن؟!.. وماذا نريد لشعبنا، وماهو موقعنا على خارطة الحضارة والفكر الإنساني؟!..
وأظن أنه إذا كان لدى المسئولين عن الثقافة في مصر إجابة عن هذا السؤال، ما كانت هناك أزمة تشتعل في كل مرة يظهر فيها النقاب على السطح، وأظن أيضًا أنه لو كان لدينا في الأساس (قصر) يقدم (ثقافة) وطنية حقيقية، ما كانت هذه الموظفة التى تخفى وجهها عن الناس تتجرأ على شغل وظيفة تفرض عليها التعامل مباشرة مع الناس!!.
إن المدافعين عن حق المنتقبات في العمل مع الجمهور، في الثقافة والفنون والمدارس والمستشفيات يريدون فرض قانونهم الخاص واختياراتهم على مجتمع يفرضون عليه النقاب.
وللأسف فإن عودة النقاب إلى صدارة النقاش العام في مصر يحدث في الوقت الذى يخلع فيه النقاب أكثر شعب في العالم ارتداه لعقود طويلة، إن السعودية تتحرر من النقاب ومن الصدام الاجتماعي حوله، بينما مصر التى علمت الدنيا الفن والثقافة والحرية عبر التاريخ، تعود هذه الأيام لتسأل نفسها هل تقدم الثقافة لشعبها ملفوفة في نقاب، أم بدونه؟!.. أى ثقافة وأى فكر يمكن أن يتعاطاه شباب وأطفال من سيدة تخجل أن تلتقى عيون الناس بها؟!
فهل الموظفة التى تعتبر أن وجهها عورة يمكن أن تعرض في قصر ثقافتها فيلمًا بطلته امرأة سافرة؟!
ولأنى لا أستطيع أن أجد إجابات بسيطة على علامات الاستفهام المعقدة التى تطرح نفسها كل فترة علينا في مصر، سوف ألجأ لنظرية المؤامرة، وأتصور أن هناك من يتعمد أن يحول الحالات التى تشبه حالة موظفة الثقافة المنتقبة إلى قضية رأى عام لينشغل بها الناس وتصبح هى هاجسهم واهتمامهم الرئيسى!، وأتصور أن حزب المشتغلين بالدين إعلاميًا - ومنهم تجار كبار حققوا ثروات هائلة- هم أكبر المستفيدين من إشعال الصدام المجتمعى حول المسائل أو الأمور المختلف عليها بين بسطاء الناس.. نهنئ المسيحيين أم لا؟!، فوائد البنوك، صيام أو إفطار الرياضيين، التدخين، الزواج العرفى.. زواج المتعة والمسيار.. إلخ!!، فلا يعقل أن يكون حجاب حلا شيحة أو صابرين،أو جواز وطلاق الداعية الشاب معز مسعود من الممثلة شيرى عادل هو القضية الأهم في الإعلام والسوشيال ميديا أسبوعًا بعد الآخر!.. ولا يمكن أن تكون فساتين رانيا يوسف أو الراقصات وشكل بدلة الرقص هى المواضيع التى تتصدر بحث الشباب على جوجل!
إن خبرًا واحدًا من هذه الأخبار ما إن يتحول إلى (تريند) وقضية عامة، يجب أن يجعلنا نتوقف ونشعر بالخطر ونسأل أنفسنا: ماذا جرى لعقل مصر؟!.. ماذا جرى لثقافة مصر ولإرثها الحضارى والإنساني؟!.. إن مسألة بحجم نقاب موظفة في جهة حكومية ما كان لها أن تصبح قضية، فهى حرة تلبس ما تراه، والدولة المدنية بقوانينها ودستورها حرة أيضًا في أن تقبل أو ترفض وفق توجيهاتها والتزاماتها نحو مواطنيها وفيهم المسلم والمسيحي. ولكن للأسف هناك بين المسئولين عن الثقافة من يخشى، أو يتردد في اتخاذ القرار، أو فلنقل أنه.. لا يعرف أى ثقافة يريد تقديمها للشعب.. ثقافة منتقبة مختبئة.. أم ثقافة منفتحة تكشف وجهها المستنير للعالم؟!