الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الجيش المصري تاريخ مجيد وحاضر يصون المستقبل (23)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيم قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية التى أشرقت مع شمس الدنيا من «مصر» كفجر للضمير الإنسانى وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه- مفروضًا علينا- يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
الواقع- الآن- في عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
والى مصر يقرر مفاجأة عسكر السلطان
أخبرت عيون الجيش المصرى في قونية قائد الجيش أن السلطان أعد جيشا كبيرا بقيادة رشيد باشا، الصدر الأعظم، للانقضاض على الجيش المصرى، وظهر بجلاء أن مماطلة الباب العالى لمطالب والى مصر ما هى إلا مناورة لكسب بعض الوقت أولا لإدخال الجيش المصرى في صقيع شتاء الأناضول، وثانيًا: لإعداد العسكر لملاقاته، وثالثًا: للتشاور مع حلفائه الإنجليز والنمساويين، وأخيرا لتأليب الرأى العام الأوروبى على والى مصر، فأرسل إبراهيم باشا لواليه يخبره بخديعة الاستقواء بطول الزمن، وأنه من الأحوط تدبر الموقف قبل مبادأة العسكر الأتراك الجيش المصرى في قونية: «إنك تصدر لى الأمر المطاع بناء على تقرير المستر بريجس وغضب قومندان الروسى بألا أعلن سقوط السلطان، وبأن أقف دون تجاوز قونية، فيا والدى، إن السياسة السليمة هى قبل كل شىء درس الحالة كما هى، وتقدير نتائجها، ثم الإقدام بعد ذلك على العمل بكل حزم دون الالتفات إلى زيد أو عمرو»، وكان القائد يرى أن الاعتماد على العيون يجب أن يكون بالقدر المناسب بالتوازى مع تقديرات الموقف على الأرض، وليس لهم الوزن الأعظم في تحديد ورسم الساسات، كما إنه يراجع والده في قراره بإعلان سقوط السلطان ثم الانتظار، والتقدم تجاه قونية ثم الارتداد، وبهذا الرأى يرى إبراهيم باشا أن التردد من شأنه إضعاف الكفاءة القتالية من خلال إضعاف الثقة في القيادة السياسية حيث يكتب: «.. إن جيشًا قويًا باسلًا مثل جيشنا لا يحتمل سياسة التردد وجس النبض.. « ويزيد»: «.. على أن هذا الجيش لا يستطيع الوقوف دهرًا طويلًا مكتوف الأيدى»، وبالنسبة لاتباع القائد إبراهيم مبدأ استغلال النجاح حال انتصاره على جيش الباب العالى، وعدم موافقته والده في الارتداد بالجيش المنتصر يقول: «.. وفى حالة انتصارنا على جيش الصدر الأعظم يكون قادرا على الارتداد للوراء ثم لم شعث جيشه والارتداد إلينا إذا نحن لم نقتف أثره بعد النصر»، ويرتجى القائد من واليه أن يأمره بالتقدم تجاه النصر واستغلال مبادأة العدو ومطاردة فلول عسكر السلطان قبل تغير مناخ المعركة، وهو ما يضعه في حساباته وتقديراته: «.. فدعنا يا والدى نهزم جيش العدو الأعظم، وأعلم أن هذه البلاد وجوها لا يشبهان أرض مصر ولا جوها، فهى ليست صالحة في كل الأوقات للأعمال العسكرية»، ولكن القائد لم يفته التحلى بالانضباط العسكرى وهو لن يتجاوز برأيه أوامر والى مصر مهما كانت تقديراته للموقف الفعلى، ومهما كانت مخالفته في الرأى لملاحظات قومندان السفينة الروسى وقنصل إنجلترا في مصر اللذين لا يعول على آرائهما بالمرة: «ومهما يكن من الأمر، فإننى أرى من مدعاة الأسف أن أضطر مرة أخرى للانتظار عشرين يوما، حتى يأتى الرد من والى مصر بالتحرك أو الانتظار».
ولما كانت المسافة بين الجيش المصرى في قونية والأرض الأم- مصر- تزيد على 210 أميال ظن رشيد باشا أن تلك المسافة ستزيد من ضعف الجيش المصرى وتقوى من فرص انتصاره، إلا إن المقادير خالفت حظه النحس، فأرسل والى مصر فرقتين على أعلى مستوى من التدريب والتجهيز العسكرى إلى قيادة جيشه في قونيه ليُقوى من عضده ولُيثبّت رأيه في الانقضاض على جيش العسكر التركى، وهو من عارض الإنجليز في إحدى رسائله لهم: «.. ومهما يكن الأمر فإنى لا أود أن أعرف هل دخولنا إسطمبول لا يتفق مع نظر الحكومة الإنجليزية؟ فإذا أرادت إنجلترا أن نقف في موقفنا الحاضر فإنى قادر على أن أكره النفس على ذلك».
وفى تلك الآونة كان سفير روسيا في تركيا قد تحجج بإرسال أخيه القومندان بوثينيف قائد الطراد «باريس» إلى مصر ليطّلع على حال دار الصناعة، وحقيقة ما وصلت إليه، حتى يستطيع تقدير الموقف كاملا إزاء تدخل روسيا إلى جانب تركيا أو التزام جانب الدبلوماسية، ورغم عدم إلقائه التحية الواجبة أثناء دخوله ميناء الإسكندرية وهكذا لم يرد الميناء بتحية احترام له، إلا إن حنكة والى مصر تجاوزت عن وقاحة القومندان وأراد هزيمة عدوه معنويا، وبالفعل فطن والى مصر للحجة واطلع القومندان على سير العمل بدار الصناعة، حتى إن المبعوث قال متعجبا من قدرة المصريين في التصنيع الحربى: «ما سمعت بمثل عملك إلا في القصص والحكايات» وبالطبع راسل أخاه ليطلعه على ما من شأنه الحذر قبل اتخاذ القرار بدعم تركيا ضد مصر القوية عسكريا وصناعيا.
ولأهمية تلك المعركة في بقاء السلطان من عدمه ذهب بنفسه إلى مقر العسكر بعد أن أصدر مرسوما بولايته على مصر والصعيد والحجاز وكريد والشام، ليزيده من القوة والرغبة في الانتصار، ووجه حديثه إلى قائد عسكره وإلى عساكر السلطان قائلًا: «أنقذ الدولة فإن شكرى لك ولعساكرك إذا أنت فعلت لا يكون له حد» وكان من المفارقة التى لن ينساها التاريخ مزاملة القائدين إبراهيم ورشيد في معركة المورة 1837 ومواجهتهما لبعضهما البعض في معركة سعت إليها تركيا مكرهة مهزومة بالخوف، وسنوالى رسالتين للقائدين الصديقين المتقاتلين إبراهيم باشا قائد الجيش المصرى ورشيد باشا قائد عسكر السلطان الذى اغتر بعساكره وتوهم النصر في العدد التالى إن شاء الله.