الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

درس المجنون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن فكرة احتمال الإصابة بالجنون، خاصة عندما يتعلق الأمر بشخص كان دوما يعتبر طبيعيًا، هى فكرة مرعبة دائما، فهى اجتماعيا فكر ترتبط بالعزل وسط المجتمع، بطابع فضائحى بسبب هيمنة النظرة الاجتماعية التى تجعل الجميع يصبو إلى التسوية غير المعقولة فى ميدان التمايز العقلانى الذى لا بد منه.
كثيرا ما اجتهد التاريخ فى تقديم الجنون كظاهرة طبيعية قابلة للإدراج فى السلم الاجتماعى من جملة أمور أخرى تعد غريبة ولكنها ليست منبوذة، وبالتالى فالجنون سلوط عادى يدعو إلى الشرح، لكى يبلغ درجة ضمان مكان فى نظام حريص على دمج أى شىء يثير أسئلة للفهم العام.
كثيرا ما وفر الجنون فرصة لإجراء تحليلات لتنوير دستور الروح الذى يصيبه البلى ويحتاج إلى أوصاف جديدة تدرج جديد السلوك ومحدث الوجدان، الجنون بهذا المعنى يصبح مجرد مكان على هامش الحقيقة «العادية» يطرح عليها أسئلة مشاغبة تجعلها تتأمل نفسها... وربما يقود الجنون الذى هو فقدان العقل هذا العقل نفسه إلى فهم طريقة عمله هو نفسه.
- هل نحتاج إلى المجنون لفهم حدود سلامة العاقلين؟
ثم، ألا يمكن أن نكون مجانين نخطئ جماعيا فى اعتقاد بسلامتنا العقلية فنتمادى فى جنوننا؟
ذلك ما تحاول المتتالية السردية التالية النظر فيه.
تنويعات
كان عمى المكى من الشخصيات البارزة فى القرية، أغرمت به أنا كما أغرم به الجميع فى منطقتنا، ومما يحسب له أنه المجنون الوحيد الذى تزوج ست مرات، والذى لم يمنعه الجنون من أن يتقاضى راتبا شهريا يساوى ستة أضعاف راتب شيخ البلدية ومن أن يمتلك رسالة بخط جان مورو نفسها...
كان أوروبى الملامح، مع جلافة البربرى التى كثيرا ما تمثل نقطة جذب لا تقاوم لدى النساء. فإذا اجتمعت هتان الصفتان مع شهرة لا يستطيع أحد أن يثبتها ولا أن ينفيها حول قوته الجنسية التى تصوره بأنه أوتى قوة عشرة رجال، فإن كل شيء بعد ذلك ممكن مباح...
ذهب إلى فرنسا فى سن الثامنة عشرة مغتربا يبحث عن العمل كحال آلاف الجزائريين غداة الاستقلال، بسرعة وجد نفسه فى شقة امرأة فرنسية مطلقة تدى ايزابيل، تمنحه الاستقرار لقاء منحه إياها الزلازل اليومية المستمرة...«كان يبدأ زلزلتى فى التاسعة ولا يتوقف إلا بعد الواحدة ليلا...c’est du jamais vu !» كانت تقول لصديقتها جانيت...
اشتعل خيال جانيت التى لم تصدق أن الجزائر التى كان منذ سنتين بلادا محتلة فيها حفاة عراة لا يشبعون القوت، قد تحتوى رجلا جميلا غامضا لا يتكلم كثيرا يأتى امرأته ست مرات متتالية بدون كثير توقف...
لم تجتهد جانيت كثيرا كى يفهم «ميكي» أنها راغبة فيه، وأنها لا تريد أن ينكشف أمرها لأن إيزابيل صديقتها...واتضح لها أن ما قالته صاحبتها عن ميكى قليل لا يفى الحقيقة حقها.. الليل لإيزابيل لأجل الإيواء والنهار لجانيت التى تعطيه «المصروف» وكانت امرأة ثرية تجعل مصاريفه أضعاف ما يتقاضاه أهل قريته المغتربين العاملين فى المصانع الفرنسية وفى ميدان البناء...
فإذا ساله أبناء البلد: لا نراك تعمل يا «ميكي» فمن أين لك بكل هذا المال؟
أبواب الرزق كثيرة... والله على كل شيء قدير.
وكان أغلبهم متشككا فى إيمان المكى الذى يلبس أقمصة إيطالية كالتى كان يلبسها جون بول بلموندو وآلان دولون وعمر الشريف...والتى لا ترى إلا فى السينما...
فى إحدى الليالى سكر سكرا مبالغا فيه منعه من ضبط نفسه كما تعود، ولم يمنعه من استيعاب الشتيمة التى أطلقها فى حقه أحد معارفه قائلا: أنت مثل العاهرة؛ الفرق فقط هو أن العاهرة عموما امرأة يستأجرها الرجال وأنت رجل تستأجرك النساء، ضربه بلكمة جزائرية واحدة أسقطته سقطة فرنسية واحدة جرت خلفها ويلات عديدة...
يذكر أنه أقتيد إلى مخفر الشرطة ثم يذكر أنه شرب دواء مخدرا للسيطرة عليه وهو فى حالة هيجان، ثم لا يذكر شيئا إلا وهو يستيقظ فى بيته ورائحة الطين تختلط برائحة الروث وتدخلان من نافذة غرفته البائسة فى بيت أبيه البائس...قضى ساعة يسأل أمه وهى تجيب بصوتها الذى تسيطر عليه كآبة أمازيغية تعود أصولها حتى سام ابن نوح...بعدها فهم أنه قد تم طرده نهائيا من فرنسا بسبب سيرة مشينة...
«مكيدة مدبرة... زوج إيزابيل أو الحبيب السابق لجانيت» كانا هما السببين الأولين والمباشرين لطرده، إلا أن السببين قد تطورا: عمار المنتمى إلى حزب mna بسبب معارضة عمى المكى للحزب وتدعيمه لحزبه fln...وقد يكون مصطفى الفرجيوى، لأنه اقترض من ميكى سبعين فرنكا قديما وهو عاجز عن سداد دينه بسب الخمر...وتطورت عبر السنوات أسباب طرده لكى تشمل الممثل العالمى «آلان دولون» الذى كان يغار منه، وكذلك الممثل الفرنسى ذو الأصل الإيطالى «لينو فونتيرا» الذى كان يشعر بأنه عليه أن «يخاف على مكانته» فى السينما...ولم يمنع من أسباب النزول؛ نزول الكارثة عليه طبعا حتى الرئيس فرانسوا ميتيران الذى كان يكره الجزائريين المخلصين والرئيس جيسكار ديستان الذى لا يريد جزائريين يمارسون الجنس مع الفرنسيات بل يريد عمالا يعملون كالعبيد؛ فى حين هو كثيرا ما رأوه يقود السيارة DS palace:CITROEN... بعض الأخبار تقول بأنها سيارة بنت صاحب الشركة. وأن منها نسختين فقط إحداهما لرئيس فرنسا.
على لائحة أسباب ترحيله الطويلة؛ وقبيل وفاه بقليل ذكر: اللوبى الصهيونى المضاد لكل من يجرؤ من المسلمين على تخصيب رحم امرأة يهودية (من الأشياء التى صارت معروفة على مر السنوات أن إيزابيل يهودية متخفية فى زى مسيحية غير شديدة التدين، وأن جانيت يهودية نشطة فى ميدان الحركة النسوية)...كما ورد اسم جيم كارتر على لائحة المتآمرين ضده؛ بسبب أنه كان يفضل المشروبات الأوروبية على الأمريكية؛ بدليل أنه فى إحدى الصور القديمة التى جاءه بها أحد الأقرباء تظهر أمامه زجاجة «شويبس» بدلا من «كوكا كولا» التى لم يشربها أبدا وأتى يقسم أنها لم تدخل جوفه...
كان يقول: «فرنسا كلبة...لا رحمة فى قلبها» وكان الجميع فى القرية يتذكرون ويلات الاستعمار إلا عمى المكى فكان يستذكر عطر الهيليوتروب الأبيض الذى تملأ به جانيت جسنها الرائع...فيما إيديت بياف التى تنبعث من الاسطوانة ٣٣ دورة التى لا تشبعها إيزابيل...
مع مرور السنوات ظل عمى المكى ينقل أداته حيث شاء من النساء...وكان إذا تحدث فى القرية التى تستعد وسط الانتشار المرضى للحى لمرحلة الحرب الأهلية، عن تاريخه الفرنسى المجيد، اكتفوا بوصفه بالمجنون.
«إنه مجنون...ربى يحسن عونه».
خلاصات
فى الجداول الاجتماعية للإدراج يعد المجنون فئة تتطلب الرأفة حينا والحذر حينا آخر.
المجنون هو شخص يوصف دينيا بأنه من «رعايا الله»، ويوصف فى الطب بأنه خطير على المجتمع.
الجنون حالة مرضية قد تنتقل إلى الفرد وراثيا فنقول: من عائلة كثيرة الإصابة بالجنون، وقد يأتى بسبب صدمة ما «تفقده» عقله.
العقل الذى هو أقدم هبة فى العالم قد يصبح معرضا لرياح التغيير بسبب الصدمات الشخصية أو الحروب وما شابه ذلك.
فى «تاريخ الجنون»، فى عام ١٩٦١، تحدث فوكو على وجه التحديد عن المرض العقلى، وهو نوع من مصادرة تجربة ما سماه «بالسلطة الطبية». ولكن ما هى السلطة الطبية بالتحديد؟ فى إنشاء نوع من الاعتراض على الرجل المجنون الذى يؤدى فى النهاية إلى استحالة الحوار بين الطبيعى والمجنون. ربما يكون هذا الحوار هو بالضبط ما يسعى فوكو إلى وصفه فى «تاريخ الجنون». ما هو الحوار بين الحياة الطبيعية والجنون؟ بين العقل وغير المعقول؟
فى هذه المسافة يمكننا تأمل «حياة وأفكار وميول عمى المكي»، لأجل الخروج إلى الدائرة الأوسع للنقاش حول جوهر الجنون الذى قد يأخذ قيمة وأهمية من خلال الحوار الثرى بين الفلسفة والطب النفسي.