الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. عبد العليم خطاب.. مزيج من الموهبة والثقافة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الفارق دقيق عميق بين القوة والقسوة، والخلط وارد عند الكثيرين بينهما وبين الشر. في الحياة والسينما معا، تتحول بعض الأحكام الانطباعية إلى حقائق راسخة مستقرة، ومن ذلك أن يُختصر الإبداع التمثيلى للعملاق المثقف عبدالعليم خطاب في ساحة تجسيد أدوار الشر. فضلًا عن صعوبة الاتفاق الحاسم على تعريف الشر، لأنه مفهوم نسبى مراوغ، فإن عبدالعليم فنان متنوع الأدوار، ومن المسيء لموهوب متمكن مثله أن يكون تقييمه متعجلًا لا ينهض على قراءة شاملة واعية لكل أو جل محطات رحلته الطويلة مع السينما. 
للرائد المحترم إنجازات شتى في المسرح والإذاعة والإخراج السينمائي، ويُذكر له بكل التقدير إيمانه بأن الفن رسالة سامية قوامها مزيج من الموهبة والوعى والثقافة والعمل الجماعى المنظم، الذى لا يعتمد على النجم الفرد الذى يستأثر وحده بالاهتمام دون غيره. لا ينفرد عبدالعليم في أى من الأعمال التى يشارك فيها بالبطولة ولا يقترب منها، ذلك أن مواصفات السينما التجارية لا تنطبق عليه، ووجوده في الصدارة لا ينعش شباك التذاكر؛ اللعنة التى تلحق الظلم الفادح بعشرات المواهب في تاريخ السينما المصرية.


الشاب الأرستقراطي
الموظف البنكى في «الطريق المستقيم»، ١٩٤٣، والشاب الأرستقراطى العاطل المستهتر في «ابن الحداد»، ١٩٤٤، والضابط هامشى الوجود في «ليلى بنت الفقراء»، ١٩٤٥، وغير ذلك من الشخصيات التى يقدمها عبدالعليم في الأربعينيات، أدوار صغيرة غير مؤثرة، منقطعة الصلة بالشائع المنتشر من أعماله في الخمسينيات والستينيات، وهما العقدان اللذان يشهدان الأهم والأنضج في مسيرة عطائه.
ربما يبدأ اقتران عبدالعليم بالشر في «قطار الليل»، ١٩٥٣، فردًا من العصابة التى تصنع الأحداث، وفى «ريا وسكينة»، العام نفسه، يجسد شخصية فرغل الفرارجي، الذى تطارده الشرطة متهما بالتعاون مع منفذى جرائم سرقة وقتل السيدات، ويُقتل عمدًا في المقابر لتموت أسراره معه، وفى «الهاربة»، ١٩٥٨، يتألق عبدالعليم في الشخصية التى تحمل اسمه. القروى المحافظ الذى ترفض ابنة عمه زينب، شادية، أن تتزوجه، وتؤثر الهروب، ما يدفعه إلى الشعور بالإهانة التى تتجاوزه إلى العائلة وسمعتها المهددة:« يا دى الفضيحة اللى اتفضحناها.. نودى فين وشنا من الناس».
لا شك أن الدفاع عن الشرف ومنظومة القيم الأخلاقية الموروثة هو دافعه الأساس للغضب والإصرار على الانتقام من ابنة العم. إذا كان الأب كبير العائلة، زكى رستم، يضعف ويميل إلى الغفران والتسامح، فإن عبدالعليم لا يلين ولا يتراجع، ويحاصره الإحساس الموجع بالعار، لكن الوصول إلى الهاربة قرب النهاية لا يفضى إلى القتل، ويقنع بعقوبة النفي: «اللى زيك القتل شوية عليه.. لكن أنا إكراما للرجل اللى كلنا بنحبه وكنا عايشين على حسه.. وعشان خاطر المسكينة دي.. أنا ها أسيبك تروحى لحال سبيلك.. لكن البيت ده.. والبلد كلها.. ما تخطيهاش بعد كده.. انتِ اخترتِ لنفسك طريق.. خليكِ فيه على طول.. حد الله بينا وبينك».


القروى المحافظ
يدافع القروى القوى المحافظ عن كرامة العائلة وقيم المجتمع الذى ينتمى إليه، وفى هذا السياق لا يمكن القول إنه شرير جدير بالكراهية والإدانة. أسلوب الأداء حافل بالثقة والقدرة على الإقناع، والقامة الفارعة تتحالف مع الجسد القوى والصوت العميق لإضفاء المصداقية على موقفه المعبر عن الشائع من قيم في المرحلة التاريخية وما يتلوها من مراحل، لكن الأمر يختلف في «دعاء الكروان»، ١٩٥٩، أشهر أدوار عبدالعليم السينمائية والأكثر التصاقا بجمهور السينما المصرية.
الخال جابر ليس أخلاقيا مخلصا في دفاعه عن الشرف والقيم التى يقدسها المجتمع، فهو ظالم يتحامل منذ البدء على شقيقته وابنتيها، ويعاقبهن في قسوة غير مبررة بالنفى والتشريد بعيدًا عن الأهل والعشيرة، جراء الانتهاكات المشينة التى يقترفها زوج الأخت قبل قتله. كيف لمن يزعم الحرص على الشرف وضرورة صيانته أن يعرّض شقيقته وابنتيها لمخاطر الضياع في المدينة بلا عائل؟، وكيف له أن يقتل هنادى لتفريطها وهو الذى يبيع شقيقتها آمنة تحت مظلة الزواج مقابل عدة ريـالات؟. كتلة مزعجة من التناقضات والمفارقات يبدع عبدالعليم خطاب في التعبير عنها ببراعة وتمكن، مسلحًا بثبات انفعالى منضبط يحول دون الانحراف عن ملامح الشخصية المعقدة المحكومة بالازدواجية والمزيج المعقد الغرائبى من التزمت والجشع.


الخال جابر
ليس أدل على تفوق عبدالعليم في تجسيد شخصية الخال جابر من اقترانه بها، وشيوع مقولة براعته الاستثنائية في أدوار الشر المخيف المقنع، لكن كلمات الحق هذه تفضى إلى باطل ينتشر ولا تتم مراجعته، ذلك أن تألق الفنان الكبير لا يقتصر على الشر وحده.
قبل عامين من «دعاء الكروان»، كان عبدالعليم متوهجًا في «الفتوة»، ١٩٥٧، عبر تجسيده لشخصية التاجر الكبير الذى يعانى من احتكار وهيمنة المعلم أبوزيد، زكى رستم. رجل قوى طيب جاد مأزوم، يكره العنف ويعى حدوده وإمكاناته. يشكو مثل زملائه العاجزين عن المقاومة، ويتعذب بالأزمة التى تهدد استمرار عمله.
في «حسن ونعيمة»، الذى يُعرض في السنة نفسها مع «دعاء الكروان»، يتسم الشيخ عبدالباسط بالقوة والشهامة والشجاعة دون تورط في أعمال شريرة تؤخذ عليه. لا يخلو من بعض الاندفاع والحرص على الثأر، لكن دوافعه تنبع من التمسك بالكرامة والقيم الريفية الموروثة المهددة.
التمييز ضرورى بين القوة والحزم من ناحية والعنف والشراسة المنفلتة من ناحية أخرى، ولا شك أن الريس عرفة في «الحرام»، ١٩٦٥، هو التعبير الأمثل عن التحولات الإنسانية التى تتراوح بين القسوة والرقة، وتنتمى في نهاية الأمر إلى ساحة الطيبة والانتصار للخير. يحتاج المسئول عن مراقبة عمل أنفار الترحيلة إلى الحزم وإحكام السيطرة، وربما بعض العنف والقسوة، حتى لا يفلت الزمام وتسوء الإدارة، وقد يصل به الحرص على النجاح إلى الاستعانة بالعصا يلهب بها الظهور، لكنه يحب هؤلاء العاملين تحت قيادته ويتعاطف معهم في المحن والأزمات. لا يتردد عرفة في التستر على عزيزة، فاتن حمامة، عندما يقف بها المرض على حافة الموت. في مواجهة ناظر الزراعة، زكى رستم، بكل ما يمثله من سلطة، يدافع عن المرأة المسكينة، ولا يتورع عن التوسل الذى ينم عن عظيم حبه ومدى انتمائه لمن يقسو عليهم أحيانا، وثمة مشهد بعد موتها يعبر عن حجم الموهبة التى يتمتع بها الممثل القدير.
يتوقف عمال التراحيل عن العمل بعد وفاتها، ويشكو له مساعده: «يا ريس عرفة.. الأنفار مش عايزة تشتغل.. ما تيجى تشوفلك صرفة معاهم».
رد الفعل يتمثل في تحطيم العصا، أداة البطش ورمز القهر، معلنا تعاطفه وتضامنه في موقف عصيب لا متسع فيه إلا للحب والإعلاء من شأن الحس الإنساني. لا يسرف عبدالعليم في الانفعال العصبى غير المحسوب وهو يقوم بفعلته الاستثنائية هذه، ويسعفه الوجه الناطق بديلًا عن كلمات لا تغنى شيئًا في مواجهة المحنة. المهيمن على أعماقه هو ضرورة القيام بالواجب دون افتعال استعراضي، والإصرار على دفن عزيزة في قريتها البعيدة دليل جديد على أن قشرة العنف من لوازم العمل، ولا تتعارض مع انتمائه الأصيل إلى معسكر الحب والخير.
هيبة تليق بالسيد
في «عنتر يغزو الصحراء»، ١٩٦٠، و«عنتر بن شداد»، ١٩٦١، يُسند دور شداد إلى عبدالعليم خطاب، فهو يجمع بين الطول الفارع والجسد القوى والصوت المعبر عن خبايا اللغة ودلالاتها. هيبة تليق بالسيد الذى يقسو على ابنه غير الشرعى ويضمر العطف، ويتعذب بضرورة الخضوع للتقاليد والأعراف مع الشعور الذى لا يفارقه بالذنب والتقصير.
لا يغيب عبدالعليم عن فيلمى «أمير الانتقام»، ١٩٥٠، و«أمير الدهاء»، ١٩٦٥. من قادة جهاز الأمن في العمل الأول، وزعيم المعارضة عبدالجليل في الثاني، والإتقان في معايشة الشخصيتين المتناقضتين هو المشترك الذى يليق بممثل محترف.
لا يتوقف خطاب عن العمل الذى يعشقه ويخلص له طيلة حياته، ولا ينشغل كثيرًا بمساحة الدور الذى يؤديه، ويطل وجهه المميز مصحوبًا بالصوت الذى ينفرد به، شيخًا للخفراء في «البوسطجي»، ١٩٦٨، عمًا قرويًا للبواب حامد في «النداهة»، ١٩٧٥، وأبا تقليديا محافظا في «أريد حلا»، ١٩٧٥.
قد لا تتناسب الأدوار المحدودة هذه مع تاريخ الفنان الكبير وإمكاناته وحجم موهبته، لكنه المتاح من عمل.