الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: أمين عزالدين «المرسي أبوالعطا» من رواية «الفيلق»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.
عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟». «البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.
للمؤرخ والمفكر الكبير أمين عز الدين إنجازاته المهمة في ساحة الدراسات المتميزة عن الحركة العمالية المصرية، ومن أبرز مؤلفاته الثلاثية الرائدة عن تاريخ الطبقة العاملة في مصر، فضلا عن كتاب صغير الحجم جليل الفائدة عنوانه «شخصيات ومراحل عمالية»، وفى أحد فصوله يتوقف عند معاناة الفلاحين المصريين في سنوات الحرب العالمية الأولى، وإجبارهم على العمل سخرة في خدمة المجهود الحربى لجيش الاحتلال الإنجليزي، لعل معايشة عز الدين العميقة لتلك الفترة المهملة في التاريخ المصرى الحديث، هى التى تدفعه إلى كتابة روايته الوحيدة المنشورة قبل فترة قصيرة من رحيله: «الفيلق».
تقدم الرواية شهادة فنية تاريخية عن مرحلة عصيبة لا ينتبه إليها الروائيون، والقلائل الذين يلتفتون بشكل عابر، مثل عبدالرحمن الشرقاوى في «الأرض»، لا يتجاوز اهتمامهم المرور الجزئى الذى يخلو من التفاصيل والرصد الدقيق للمشاعر والأحاسيس المركبة المعقدة التى تنعكس في مرحلة تالية على جموع الفلاحين وتسهم بالنصيب الأوفى في إقبالهم على المشاركة الإيجابية في أحداث ثورة سنة ١٩١٩ بزعامة سعد زغلول.
المرسى أبوالعطا هو الشخصية المحورية الأكثر أهمية والأعظم حضورا في رواية عز الدين، ويمثل نموذجا للبطل الشعبى الذى تتبلور من خلاله ملامح المرحلة التاريخية، حيث ثنائية القهر والمقاومة، لا ينفرد بالبطولة المطلقة للنص متعدد الشخصيات الذى يرصد حراكا يتجاوز الأفراد، لكنه مؤهل بقوته وذكائه ووعيه الغريزى للقيادة، ليس استثنائيا خارقا مثل أبطال الأساطير ولا يمكن أن يكون، ذلك أنه فلاح من آحاد الناس، يأبى الخضوع والإذعان والاستسلام لمعطيات واقع مختل مضطرب قوامه الاستغلال والاضطهاد.
في الإيقاع اليومى العادى المألوف لقرية مصرية تقليدية سنة ١٩١٧، بعد «ثلاث سنوات من الحرب»، يمثل المرسى أبوالعطا مع صديقيه المقربين الوردانى ونوح شلة متجانسة متناغمة ذات خصوصية، على الرغم من الاختلاف والتفاوت الملموس بين ثلاثتهم، إذا كان المرح هو المشترك الأول الذى يوحدهم ويضفى على مجالسهم مذاقا متفردا، فإن كراهية العمدة والضيق بمواقفه وسلوكه هو المشترك الثاني، وينفرد المرسى عن صاحبيه بقوة ظاهرة تتجلى في ضربه وإهانته لشيخ الخفر، رمز السلطة المحلية والتبعية للعمدة، ومن المنطقى أن يكون بتكوينه هذا ذا جاذبية تدفع النساء إلى الإعجاب به.
ينتمى المرسى إلى عائلة البلاعطة ذات المكانة في القرية، وباعتدائه المهين على صلاح أفندي، أحد أفراد عائلة أولاد سالم، التى يتربع كبيرها في منصب العمودية، تظهر حقيقة التوتر الدائم بين العائلتين المتنافستين، ويضمر العمدة الانتقام لرد الاعتبار بعد عودته من المركز مكلفا بتقديم عدد من رجال القرية للعمل مسخرين في خدمة جيش الاحتلال والحرب التى يخوضها: «الحكومة طلبت من كل مركز في المديرية رجالة عشان تشتغل في مصر. ومطلوب من عندنا خمسين اسم نقدمهم».
فرصة ذهبية لتأديب الخصوم المناوئين، وفى طليعتهم المرسى والوردانى ونوح، الحماية الإنجليزية المفروضة على مصر منذ اشتعال الحرب تجعل من السخرة عملا يتجاوز قدرة الفلاحين على الرفض والاحتجاج، إلا في إطار فردى يتجسد في محاولات الهروب الفاشلة من قوات البوليس المكلفة باحتجازهم وترحيلهم، أما السلوك الظالم للعمدة فبمثابة الامتداد المنطقى للمناخ العام، ما يتعرض له الفلاحون في «الفيلق» ليس إلا حلقة من سلسلة القهر الذى يكابدونه من سلطة الاحتلال وطبقة كبار الملاك، ولا أحد ينجو.
في مفارقة عبثية دالة على ضعف وتهافت السلطة المحلية قليلة الحيلة، يُساق صلاح أفندى قهرا مع المعتقلين المرحلين بالقوة، جراء شجار مع الضابط الإنجليزي قائد الحملة، ويجتمع الفرقاء المتخاصمون لمواجهة المصير التعيس الذى لا تمييز فيه بين عائلة وأخرى. عندئذ يتراجع التناقض الثانوى بين الفلاحين، وهو منذ البدء لا يمثل ركيزة جوهرية في خريطة الصراع، يتجلى ذلك بوضوح في المشاعر التى تسيطر على المرسى وهو يفكر في خصومه المحليين قبل أن تقع الواقعة: «كان ينظر إلى أولاد أبى سالم الذين وفدوا إلى السوق ليجد أنهم جميعا من الصغار والفقراء، أما صلاح أفندى فلعله ما زال يغط في النوم كعادته، والعمدة يجلس مطمئنًا في حماية خفر السوق، فلماذا يتحمل الغلابة وحدهم ضربات النبابيت وهى تهوى كالصخر على رؤوسهم؟».
الفقراء في نهاية الأمر كتلة واحدة، دون نظر إلى المشاحنات التقليدية الصغيرة التى لا تخلو منها قرية، والخضوع للسلطة الإنجليزية أداة أخرى للبرهنة على وعى المرسى واختلافه عن غيره من أصحاب الرؤى السطحية.
في القطار الخانق الذى يحمل الجميع إلى المجهول الغامض، يقترب المرسى من صلاح ويحول بنفوذه دون تحرش الوردانى ونوح به: «إخرس يا واد أنت وهو.. يعنى مش مكفيكم اللى إحنا فيه؟ ما تزعلش منهم يا صلاح أفندي.. أنت عارف عجارة ولاد البلاعطة، تعالى معانا يا رجل.. تعالى».
المعاناة المشتركة تمحو أسباب العداوة بين خصوم الأمس القريب، وأفراد كتيبة الفلاحين المقهورين يتهيأون للمشاركة في معركة لا شأن لهم بها ولا مصلحة تدفعهم إلى التضحية. قراءة وتحليل المشهد الكابوسى تكشف عن وعى المرسى ورؤيته العميقة، فإذ يقول صلاح أفندى في تمييز طبقى صارخ بين ضحايا السخرة: «بقى أولاد الناس يجرى لهم كل ده يا مرسي؟»، يأتى الرد معبرا عن حس إنسانى يتجاوز المنظور الطبقى الضيق: «كل الخلق هنا أولاد ناس برضه يا صلاح أفندي.. والمصيبة لما حطت عمت على الكل.. ما سابتش لا كبير ولا صغير، حد عارف يمكن ده من غضب الله علينا ومن عمايلنا في بعض».
المرسى ليس إنسانا خارقا، وتتسع حياته لمفردات الحزن والشجاعة والألم مثل غيره، لكن التفاؤل يلازمه، والمرح لا يفارقه، وانشغاله الدائم بالآخرين دليل عملى على عمق انتمائه الأصيل الذى يخلو من الأنانية والنرجسية والنزعة الانغلاقية، بطولته الشعبية لا تقترن بقوته الجسدية، فما أكثر الأقوياء بلا بطولة، لكن القيادة رهينة برؤيته النقية وسلوكه الذى لا يتناقض مع أفكاره.
السقوط في براثن السلطة الإنجليزية نتيجة منطقية للفارق الشاسع في القوة بين الفلاحين والمستعمر، والمقاومة عند المرسى لا تعنى الاندفاع والتهور والتورط في محاولات ساذجة غير مدروسة للفرار، ما يفكر فيه صلاح أفندى لا يروق للمرسي، والاعتراض لا ينبع من الخوف: «أنا ما أخافش أبدا.. وأنت عارف كده.. لكن لما أعوز أعمل حاجة لازم أعملها ما تخرش منها الميه».
التخطيط الجيد من مقومات الزعامة، والإحاطة المتأنية بالمشهد قبل اتخاذ القرر ضرورة للنجاح. الأمر ليس مغامرة عشوائية يمليها الحماس والإسراف الانفعالى المغلّف بالعاطفة، ومن هنا تحذير المرسى للرفاق من خطط صلاح واقتراحاته: «لكى لا يتورطوا في عملية هروب مجهولة العواقب».
الرؤية العاقلة المتزنة لا ترادف الخوف والجبن، والخطوات المحسوبة بدقة هى المدخل الوحيد الصحيح لتحقيق النجاح وتجنب الخسائر الفادحة، يحن المرسى مثلهم إلى قريته ويحلم بالعودة إلى عالمه المألوف الذى يحبه ولا يعرف سواه، وعندما يرفع عينيه إلى النجوم المتناثرة في سماء سيناء، يفكر: «إنها نفس النجوم التى تنير الآن سماء قريتنا، لكن ما أبعد هذه البقعة الصحراوية عن بلدتنا، ترى أيُكتب لنا الرجوع إليها أحياء؟».
الجميع يحلمون بالعودة أحياء إلى قراهم البعيدة، والسؤال الجوهرى الذى لا ينبغى إهماله: كيف يعودون؟.
يُقتل نوح ضحية للرعونة والاستهتار في محاولة فاشلة للهروب، ومثل طفل صغير يبكى المرسى فِقد صديق العمر ورفيق السهر والضحك والأحلام، اللافت للنظر بحق أنه لا يتحامل على صلاح أفندى ومشاركيه في تدبير العملية العشوائية الفاشلة، بل إنه يحمّل نفسه مسئولية العجز عن حماية القتيل والوفاء بتوصية الأم عليه: «مات نوح، أيا كان ما سيقولونه، هذه هى كل القصة، مات قتيلا ودمه- مهما قيل- معلق في رقبتك يا مرسي. «خذ بالك من نوح يا مرسي». ألم تكن تلك آخر كلمات خالتى آمنة وهى تودعهم؟ كأنها استشعرت مصير ولدها الوحيد الذى كان يملأ الدنيا صياحا وضحكا، كيف نريها وجوهنا الكالحة بعد اليوم؟ وكيف نلقاها إذا عدنا بغير نوح؟».
لا ادعاء أو تصنع في الشعور الطاغى بالمسئولية، ومثل هذا النمط من التفكير إضافة جديدة لمقومات الزعامة كما ينبغى أن تكون، لا يلجأ المرسى إلى إدانة المخططين الفاشلين وتوبيخهم، لأنهم يتخذون قرارات عشوائية ولا يلتزمون بنصيحته، وهو لا يبرئ نفسه، لأنه ينفعل أحيانا ويضرب المترجم القميء عندما يهينه، ويخوض معركة يعرف أنها خاسرة وغير متكافئة، لا يهدر المرسى وقته وجهده فيما لا يفيد، وينصب التركيز كله على القيام بالواجب الأخير تجاه صديقه الراحل، تعذبه صورة الجثة التى لم تُدفن وتُترك في العراء: «أليس إكرام الميت دفنه؟ أيُترك نوح هكذا مرميا على الرمال كالضباع والطيور التى بلا أهل ولا صاحب؟».
السمة الأبرز في شخصية المرسي، كما يليق بالقائد الحكيم الذى لا يجرفه طوفان الانفعالات، تتمثل في التوازن المثالى بين الروح الثورية والحسابات العقلية، والجمع بين العاطفة الصادقة المشتعلة والحرص على التريث.
بعد إكرام الصديق ودفنه وفق المتاح من إمكانات في البيئة الصحراوية، يسيطر هاجس الانتقام والثأر على مرسي، ووفق المنهج العقلانى الذى يحكمه يشرع متأنيا في التأمل والتفكير والتخطيط قبل التنفيذ. لا يلقى بالا إلى ما يقوله الوردانى عن كيفية الرد: «اقرأ عليهم عدية يس اللى عمرها ما خيبت»، والبديل الذى يراه ناجعا شافيا لا بد أن يكون ماديا خالصا يتوافق مع الجريمة التى يرتكبها الإنجليز بإطلاق الرصاص على رفيقه: «الفلاح مننا ما يقراش عدية يس إذا حد داس له على طرف، لكن يقوم عليه ويقلع له فدان قطن أو يغرق له زراعته.. يحرق له جرن أو يقتله».
الجزاء من جنس العمل، وقراءة العدية مقترح سلبى يستهدف التنفيس عن الغضب والإيهام الكاذب بأداء الواجب، الرد الوحيد المقنع يتمثل في الثأر بالمعنى الحقيقى الموجع الذى يمنح الشعور بالرضا ويفضى إلى رد الاعتبار، وفى إطار هذا المفهوم ينجح المرسى في إحراق مخزن مؤن للقوات الإنجليزية، مسلحا بالسرية والكتمان للنجاة من التنكيل المضاد، وسرعان ما يسيطر عليه الشعور بأن فعلته هذه لا تكفى ولا تشفى غليلا.
من ناحية أخرى، يعارض المرسى فكرة كتابة شكوى للحكومة، فهو يعى أنها لا تملك من الأمر شيئا، وعاجزة عن الإنصاف وتحقيق العدالة المنشودة. لا شيء يجلب الراحة إلا حصد الأرواح الإنجليزية، وهو ما يتحقق باستهداف قطار عسكرى بعد تخريب الخط الحديدي: «عشرات من العساكر الإنجليز بين جريح وقتيل تهاوت أبدانهم هنا وهناك، دماؤهم تلطخ ملابسهم الممزقة وتكاد تطمس ملامح وجوههم الناطقة بالرعب، صرخات الأحياء منهم تسرى وسط الحطام والهشيم وتطغى أحيانا على نداءات العسكر والرجال».
عمل انتقامى كهذا هو التجسيد الحقيقى لمعنى الثأر، والقتلى من الجنود مقابل قتل نوح.
مع نهاية الحرب العالمية واقتراب حلم العودة الذى يطول انتظاره، يقود المرسى أبوالعطا رفاقه بلا اندفاع عاطفى قد يفضى إلى الضياع والهلاك، الأصوات التى تطالب بالمشى على الأقدام تعبر عن اللهفة والفرحة العارمة التى تسيطر على الجميع، لكن المسافة البعيدة تمثل تحديا خطيرا لا بد من التغلب عليه بالحكمة وإعمال العقل، يفلح المرسى في قيادة الرجال للعودة سالمين إلى القرية، وهناك تتجدد الأحزان على نوح ويبدأ اللقاء مع المشروع الوطنى العام ممثلا في الثورة التى يقودها سعد زغلول.
ينخرط الجميع في تيار الثورة الوطنية، لكن الاتجاه المهادن المسالم يميل إلى الاحتجاج الهادئ والتظاهر السلمى والنضال بجمع التبرعات بعد التوقيع على توكيل الوفد، لكن الجناح الثورى المتشدد، ووقوده من الفلاحين المتعطشين للثأر، يرفض المهادنة وينادى بالكفاح المسلح في مواجهة العنف المضاد الذى يرتكب المجازر الوحشية، لقد آن للقهر الطويل أن ينتهي، والفضل للمرسى وأمثاله ممن يتسمون بالقوة والصلابة والوعي.
في السطور الأخيرة من الرواية، يقود المرسى عملية محكمة تفضى إلى انقلاب القطار الإنجليزي المحمل بجنود دولة الاحتلال، ويندفع التلاميذ والفلاحون وراء القائد للإجهاز على الأعداء والثأر لكرامتهم وما يطولهم من الأذى، يندفعون هاتفين لمصر وزعيمها: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام.. يحيا سعد.. يحيا سعد.. يحيا كفاح الشعب المصري».
بطولة المرسى مستمدة من الكتلة الشعبية العريضة المتماسكة التى ينتمى إليها، وفى إطار هذا الانتماء تنجو بطولته وزعامته من الآفات الفردية فإذا به القائد المحلى الذى يمثل امتدادًا منطقيًا للزعيم الوطنى الذى يلتف حوله ملايين المصريين؛ سعد زغلول.