الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أكاديمية في مستشفى المجانين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
السؤال الأول الذى يعن لى هذا الصباح – أنا المتعود على الكتابة ليلا- هو هذا: لماذا فكر القدامى فى إدخال الفلسفة إلى الأكاديمية؟ ولماذا الأكاديمية بالنسبة لفن فى العيش – قبل أن يكون فنا فى التفكير- تعود على المشى وعلى السياحة فى الفضاء الخارجي؟
ما الخطوة العكسية التى تنتقل بالفعل الذى هو «أن نحيا حياة أفضل» - بلفظ أبى الفلاسفة- من فضاء الحياة إلى فضاء يبدو أنه مقبرة للحياة؟
فلنرجئ السؤال من باب الحرص على أن نتمتع بقلق الأسئلة أكثر من أن تثقلنا خيبة الأجوبة التى سريعا ما ستحول ألوانها.
ماذا يحدث اليوم فى الجامعة لفعلى التفكير والحياة الأفضل؟
تنويعات
تبدو الجامعات اليوم فضاء عمليا كباقى الأفضية. ومهمتها النبيلة تبدو قد فقدت بريقها لفائدة الحرص على تحقيق مهمة تكوين «عالٍ» للتوظيف...
فى كثير من الأحوال نلاحظ أن الحكومات والشركات الكبرى تلجأ إلى ما صار يسمى خزانات الأفكار think tank لأجل الحصول على معرفة عالية معمقة بعيدا عن الجانب العمومى الشعبى للجامعة (فالجامعة صناعة الجماعة ومهمتها كما كانت منذ أفلاطون مضادة للتوجه الذى تريده السلطة...) أما خزانات الأفكار فالغالب أنها فى خدمة طالب الخدمات: اللوبى الذى يدفع لقاء خدمة «التفكير».
الجامعة كفضاء للتدريس لا للتفكير مرتبطة بشدة بطريقة صارمة فى صياغة المعرفة وتقديمها للمتكونين السائرين بجد صوب تحصيل الحقيقة.
فى الجامعة نفسها سوف نجد علما طائشا يتمرد على الطريقة «الصارمة» التى تحاول أن تمسك بحبال الحقيقة.
هل يمكننا فعلا أن نذهب إلى أبعد من الادعاء ونحن نطمع فى وضع الحقيقة فى قفص مريح؛ مريح بالنسبة لنا ولكنه ضيق جدا بالنسبة لها؟
سؤال جميل آخر: ماذا نصنع بالعلم الصارم فى ظل وجود الإيمان بالنسبية المطلقة للمعرفة؟
(صوت صديقى المعارض القديم الذى يسكننى يسأل بدوره: كيف يمكنك أن تؤمن بأنه سؤال جميل؟) والحاصل أنه صوت آت من خارج المقال، ولهذا سوف أقفز عليه.
(صديقى ذلك يسال بإلحاح: كيف يمكنك أن تحدد بوضوح مواقع أسوار المقال؟ كيف تفعل وأنت نفسك المتشكك فى صلابة أسوار الأكاديمية؟).
( صوت صديقى آت من خارج المقال، ولكننا فى العالم المبنى على عكس القضايا وقلب المسائل رأسا على عقب لا يمكننا أن نسلم بصلابة أى اتجاه، لسبب بسيط هو أن فضاء الكتابة فضاء هندسى لا خطى كما كان يقول رولان بارط، فضاء تستوعبه السيميائيات لا اللسانيات المولعة بخطية المداليل وزمنية الأداء اللغوى الذى تهيمن عليه الأصوات والحناجر الملتزمة بخطية الأداء وزمانية التلفظ، بدلا من لولبية فعلى الكتابة والقراءة).
داخل الأكاديمية الصارمة نفسها طرح أرسطو الذى يبدو لنا تمثيلا بارعا للنموذج الذى تمناه أفلاطون داخل أكاديميته: رجل حسابات، منظم، كاره للفوضى، خال من الحلم بالإمكانيات المتعددة للشيء الواحد كما كان بفعل السوفسطائيون والشعراء والمسرحيون، وكل أولئك الذين آمنوا مبكرا بأن الحقيقة تسكن اللغة والخيال والخفايا، أكثر من سكناها الحسابات والقياسات والظواهر.
ماذا قد تعنى الملاحظة التى أبداها أرسطو فى كتابه «الفيزيقا» الذى يقف كقرآن للفكر المادى فى تعارض شهير مع التعالى الأفلاطونى الذى يبدو قرينا مناسبا ومرضيا عنه للفكر الديني.: «أهل زمانى لا يهتمون بالأشياء بل بالأرقام فقط... هل تغنى الأرقام عن الأشياء شيئا؟». 
أكاد أتصور من موقعى المريح هنا على شرفات هذا المقال بأن أرسطو كان يشعر بقلق القبوع داخل الأكاديمية. كان يصبو إلى الخروج إلى الأسواق، حيث لن يعرفه الناس بالضرورة كما كانوا يتعرفون على سقراط وعلى ديوجين، هذان الأخيران كانا من المفكرين الذين يمشون فى الأسواق ويأكلون القثاء كما يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم).
(صديقى الساكن فى دماغى يسأل: ما القثاء يا فيلسوف؟)
لن أجيبه لأنه يقع على هامش المقال.
لن أجيبه لأننى شعرت بخيبة كبيرة أول مرة اطلعت على معنى الكلمة بعد سماع الحديث النبوي، واكتشفت أنه نوع من الخيار، وأنا الذى لا أحب الخيار كثيرا، وكنت أجده من الخضار الغبية، ثم شعرت بخيبة كبيرة لاحقا حينما علمت بالفوائد الكثيرة لهذه النبتة الخالية من البريق. فصرت آكلها وأتمتع بها أيضا. وهذه يسمونها أكاديمية الحياة.
والواقع أن دخول القثاء إلى الأكاديمية من خلال دروس التغذية غير مزاجى فيما يتعلق بها. الأكاديمية تعلمك أن تذهب فيما وراء التذوق الاعتباطى القاعدي، فتربى إرادتك تربية متعددة الأبعاد.
الإرادة. أصعب كلمة فى تاريخ الفلسفة والدين.
صديقى المفضل جيل دولوز يرى الإرادة فعلا غالبا للميتافيزيقا. وقد يكون فى ذلك تلميذا وفيا فى أكاديمية شوبنهاور التى تخرج منها تلميذ فاق الأساتذة حذقا وصيتا: فرديريك نيتشه.
دولوز يقول فى منتصف الطريق بين الفلسفة والفن والسياسة (من كتابه «الاختلاف والتكرار -ص٢٧٣-) بأنه علينا أن ننظر إلى الإرادة الإنسانية على أنها إرادة مبدعة؛ فالتفعيل، والتمايز، وهما فعلا الإرادة بامتياز ونتيجة عملها، هما دائمًا خليقة حقيقية. هذا الكلام يبدو أنه أدخل الرغبة إلى الأكاديمية، فى المحاولة العتيقة لجر ما هو «روحي، روحاني، ترانسندنتالي، معنوي، مضمر، تقديري، وليد اللوغوس لا الجبر والهندسة، محدوس لا محسوس، ظنى لا تقريري...» إلى دائرة «المعاينة المادية الملموسة التجريبية القابلة للملاحظة الخاضعة للقياس...الخ».
فى عرف دولوز يصبح فعل الإرادة، وبعيدًا عن التجريد الكلاسيكى المنوط به والذى يسلكه فى مسالك الحرية المشبعة بالادعاءات العاجزة حينا عن دخول الأكاديمية وأحيانا أخرى عن الخروج منها، الحرية التى هى سلاح ذو ثلاثة حدود واحد لزمن الغالبين والثانى لزمن المغلوبين وثالث للمعلقين المتحذلقين الذين يلصقون كلماتهم بمعانى غيرهم فيحدثون بلبلة تاريخية قد تتحول إلى قنبلة هيرمينوطيقية لا ندرى فى وجه من من سكان كوكب المستقبل سوف تنفجر. 
(صديقى سالف الذكر يقول لي: حدد دوائر كلامك احتراما لمقالك؛ أنت تتحدث عن التحديات المحيطة بالأكاديمية).
أفضل ألا أصارحه بأن أجمل شيء يروقنى فى دولوز هو أنه الفيلسوف الوحيد فى وقتنا الذى خل الأكاديمية متشككا تماما فى ميراثها، وإن أجمل ما قام به هو ترك دروسه فى الجامعة لأوقات طويلة لكى يدخل مع رفيقه فى الحرف والجنون فيليكس غواطارى مستشفى للأمراض العقلية وما شاكل ذلك لكى يتأملا العالم بمنطق مستشفى المجانين.
كانت النتيجة هى النصوص البديعة: «ألف طبق» ثم «ضد أوديب» و«الريزوم»... ثم السؤال الهام والمركزى فى غسق تجربتهما الفلسفية «ما الفلسفة؟».
الإرادة، على حواف التجربة، من شرفات التأثر والإحساس، فى فعل اختيارى يخترق الزمن القسرى متلاعبا بمفهوم القوة. تركيبة تصالح داخل الأكاديمية التى هى مبنية وسط مستشفى للمجانين بين نيتشه وسبينوزا وكانط نفسه، الإرادة الدولوزية كلية الرغبة بقدر ما هى قادرة على أن تحددها الرغبة نفسها، وفى هذا بت فى الإشكالية التى اعترضت فرويد ولاكان فلم يجدا لها حلا داخل الأكاديمية فخرجا بها إلى دائرة الشعر والخيال والعوالم البديلة التى يحتويها اللوغوس ويتبناها الايدوس ولكنها تظل مستعصية على البراكسيس.
خلاصات
ما العمل؟
العمل فى التفكير. وهذه هى الصلة الوحيدة التى التقى فيها الغريمان القديمان جان بول سارتر وريمون آرون: ضرورة الترحال المستمر بين action وrelexion.
(صديقى المشاكس يقول: المجانين أقوياء لأنهم تخلصوا من الأخلاق فصار كل ما يعتمل فى عالم الايدوس ينتقل مباشرة إلى عالم البراكسيس. ولهذا توصف أفعالهم بالجنون)
أفضل الانتقال الذى يعوض خلل الربط المنطقى بجماليات الجوار. والجوار بالمناسبة هو العلاقة الوحيدة التى تضمن كونا (كوسموس؟) يأهله المجنون والمعلم والفيلسوف والطبيب. المجنون يقيم سرح الحرية، والطبيب يحاول إقناعه بالعكس، والفيلسوف يتعلم منهما معا لكى يجيب طلبه الأكاديمية عن السؤال: ما الفلسفة؟
الطبيب إذن هو الضحية التى تنتظر الخلاص من المجنون أمام الشهادة الباردة اللامبالية للفيلسوف.
والفيلسوف هو التلميذ المجتهد الذى يتعلم من مأساة بطلاها الطبيب والمجنون تنتهى بدرس لن يحفظه جيدا تلاميذ الأكاديمية.
فى الختام علينا أن نجتهد كثيرا كما يقول جورج كانغيلام لكى نحدد بدقة الخط الفاصل بين العقل والجنون، وبين الحالة العادية والحالة المرضية، لأنه حد يتلاعب بنا كثيرا إذا ما تهاونا فيه قليلا.