الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«سوبر مان» في كل بيت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يستطيع ابن الجيران الآن أن يزور روسيا فى ثانيتين (لكنه ليس من أهل الخطوة). يمكنه أن يوجه خطبة عصماء بثلاث لغات فى ذات الوقت لأفراد فى ثلاث دول معًا (لكنه لا يملك ثمن تذكرة طيران واحدة لأى منها). لديه القدرة على بيع الهواء بعد تلوينه بعدد من الأحرف والصور المستهلكة ليصبح ثريًا (لكنه لا يملك علبة ألوان ولا ماكينة طباعة). يمكنه أن يدخل ويخرج من بوابات عدة بمفاتيح متشابهة دون أن يعلم أحد أنه دخل أو خرج، ودون أن يكون من هؤلاء المرحب بهم، ودون أن يراه أحد (لكنه ليس من أهل هذه الأماكن ولا يخترق جدرانها بالسحر). 
نحن لا نتحدث هنا عن ديفيد كوبرفيلد فى حالة سحرية صغرى، أو خدعة عابرة للقارات، لكننا نتحدث عن المواطن فى العقود القريبة القادمة. عنى وعنك وعن أقاربنا وجيراننا وأصدقائنا. بدأت علاقة الفرد بالتكنولوجيا تتطور على نحو جاد فى العقد الأخير من القرن الحادى والعشرين تقريبًا. ووصل الأمر بالعالم إلى درجة أن أحد الباحثين فى المملكة المتحدة قرر أن يخبرنا بمدى إدراك الأفراد لقوة التكنولوجيا فى العصر الحالي. خرج البحث بنتائج غريبة عبر إخضاع عدد من المبحوثين لحالات تجريبية تم ضبطها علميًا. توصل البحث إلى أن الأفراد مستعدون تمامًا لتصديق أن أقاربهم يطيرون بلا أجنحة، وأنهم يتحدثون مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية كصديق أو حتى من أجل أن تواعده السيدات، بل وصل الأمر بالبعض إلى أنه لن يصاب بأى ذعر لو تحدث إليه الجدار كى يوقظه صباحًا دون سابق إنذار. أعربت إحدى السيدات عن أنها تحيا من أجل الحصول على مجسم متحرك لابنها يشبه ذلك الذى ظهر فى حفلة إحياء ذكرى الراحل مايكل جاكسون، فتراه صورة ضوئية تتحرك وتندفع وتعانقها. عبر عدد منهم عن مغامرات غير محسوبة قاموا بها لاختراق بعض المواقع، ولم يتم كشفها ومحاسبتهم عليها، بل إنهم لم يكتموا إحساسهم بالنشوة الناتجة عن السيطرة على أرقام تتعلق بحياة كاملة لآخرين. ما أثار الدهشة فى نهاية عرض النتائج أن الغالبية العظمى من المبحوثين أكدت أن ثقتهم بالإنترنت نتيجة لأنه خارق جدًا ضعيفة؛ لأنه يملك كل أساليب تغيير الحقيقة معظم الواقع، وعلى نحو خارق متى ما أراد من يستخدمه ذلك. كانت أكثر الحوادث تأثيرًا لديهم هى «حرب الشعاع الأزرق»، حين استطاع الروس عبر أحد أقمارهم الصناعية أن يطوروا إحدى آليات حروب الجيل السادس من أجل تحريك أجسام ضوئية فى صحراء الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو استطاعت الكاميرات الفضائية الأمريكية أن تلتقطه وتحتار فى تصنيفه. بدأ البعض فى الاعتقاد بأن الكائنات الفضائية بدأت فى زيارة الأرض زيارة علنية للمرة الأولى، وأن التواصل معهم صار ممكنًا. إلا أن الأمر لم يتجاوز كونه مجموعة من الصور الثلاثية الأبعاد المصممة والمبثوثة بعناية على يد مجموعة من المتخصصين الروس فى علوم الكمبيوتر والبرمجة. واستغرق الأمر وقتًا حتى تم اكتشافه.
يمكن القول إن التكنولوجيا الحديثة حين تزاوجت مع الإنترنت أنتجت «سوبر مان» داخل كل إنسان. يملك هذا الإنسان «السوبر» مقومات تجعله خارقًا متى شاء، ودون الحاجة لمبالغ طائلة، أو قدرات جسدية خاصة، أو حتى معرفة أشخاص مميزين، وإنما يحتاج فقط لإجادة استخدام بعض الخدع التكنولوجية المعقدة التى لا تكلف شيئًا، ولا تحتاج إلا «للبراعة التى يمكن للجميع أن يصل إليها فى مرحلة ما»، على حد قول مارك توروس. يصبح الجميع مهددين من قبل الجميع فى هذه الحالة، إذ لا حدود لتحركات أى شخص حين لا يمكن إيقافها أو حتى العلم بوجودها.
لم تتوقف الجهات الرسمية المسئولة مكتوفة الأيدى أمام هذه التجاوزات الخارقة. يتزايد حجم الشعور بأهمية وجود تشريعات تجرم كل اختراق لأمن الإنترنت وخصوصية الآخرين، وكل يوم تقريبًا يتم تقديم مشروع قانون ما فى مكان ما على الكرة الأرضية يجرم تجاوزات الإنترنت. وعاجلًا أو آجلًا سيتفق العالم على قوانين تجعل من الواقع الافتراضى واقعًا له محكمته الخاصة وقاضيه الذى يجيد برمجته وإعادة تهيئة بيئته. لكن الأمر الذى يرى البعض أنه يجب التفاعل معه على نحو أفضل هو «نوع العقوبة». وصل الأمر ببعض الأشخاص الممارسين لوظائف تكنولوجية إلى حد المطالبة بعقوبات تكنولوجية، وسمعنا منه تعبيرات غريبة كـ «السجن الافتراضي» و«الغرامة الإلكترونية». إذ يرى هؤلاء أن هناك قاعدة بشرية عامة تقول: «إن العقاب من جنس العمل»، ومن ثم لا يجوز أن تحبس فردًا ما مثلًا حبسًا واقعيًا فى حال أن جريمته انتهاك خصوصية افتراضية، وإلا سيكون الأمر تجاوزًا وخرقًا للحق العام. واجه البعض هذه التصرفات الأخيرة بالسخرية، إلا أن أصحابها ما زالوا يدافعون عنها بقوة. 
يحتاج العالم الذى نعيش فيه الآن إلى التكنولوجيا الحديثة، فالتحول للدفع النقدي، وتكوين قواعد البيانات الميدانية عن المواطنين تتحول يومًا بعد يوم لضرورات حيوية لن تتمكن أية إدارة من الاستغناء عنها مع الوقت، رغم أنها تتغول على الطابع العاطفى للحياة لصالح الطابع الجاف فى كثير من الأحيان. إلا أن يأجوج ومأجوج شرور التكنولوجيا كامنون تحت أرضها ويحتاجون بشدة، حد الحاجة للتنفس، لسلسلتهم بضوابط تجعلنا نحيا دون أن يزحفوا علينا آكلين أخضرنا ويابسنا.