الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: صبري موسى «نيكــــولا».. من رواية «فساد الأمكنة»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.

عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟». «البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

في تمرد استثنائى إيجابي، يغادر صبرى موسى في «فساد الأمكنة» المسارح المكانية التقليدية المعهودة، القرى والمدن، ويتخذ من جبل «الدرهيب» في الصحراء الشرقية، قرب الحدود السودانية، ساحة لأحداث عمله الروائى الفريد المتفرد غير المسبوق، ولا تكتمل بطولة المكان بمعزل عن الطبيعة الخاصة لـ«نيكولا»، الشخصية المحورية الرئيسة ذات الأبعاد والملامح الأسطورية وثيقة الصلة، في الوقت نفسه، بالواقع المصرى ومعطياته وتفاعلاته خلال المرحلة التاريخية التى تدور فيها الأحداث، قرب نهاية العصر الملكي.

منذ البدء، يغرد نيكولا خارج سرب الشخصيات التقليدية المألوفة، فهو «المأساوي» الذى لا يشبه أحدا، وليس أدق في التعبير عن اختلافه وخصوصيته من القول إنه «ذلك الذى كانت فاجعته في كثرة اندهاشه، وكان كل شيء يحدث أمام عينيه جديدا يلقاه بحب الطفل، لدرجة أنه لم يتعلم أبدًا من التجارب».

ليس مستغربًا أن يُوصف نيكولا بأنه الرجل «الذى لا وطن له»، وبغياب الانتماء المحدد يرتقى ليكون إنسانا عالميا عابرا للتصنيف الضيق، ومن هنا يقدم شهادة ذات شأن عن قضايا وجودية تتجاوز الأطر الاجتماعية السياسية ولا تنفصل عنها.

تهاجر عائلته، وهو طفل في العاشرة، من مدينة روسية صغيرة، ويستقر أبوه طبيب الأسنان في «إسطنبول»، أما نيكولا فيقطع الأرض مهاجرا مع أخويه، وصولا إلى مدينة إيطالية يعرف فيها زوجة إيليا، ومنها ينجب ابنته الوحيدة التى تحمل الاسم نفسه: «وأصبحت له في الحياة امرأتان تُسميان إيليا.. تربطه بهما مشاعر صداقة عميقة فشلت في أن تكون حبا.. إحداهما زوجته، والثانية ابنته».

الزواج والإنجاب لا يدفعان نيكولا إلى الاستقرار، ففى المدينة الإيطالية الصغيرة يعرف مهندس التعدين المغامر ماريو، ويستجيب لإغراء العرض الذى يقدمه بالسفر إلى الأرض العظيمة ذات التاريخ الحافل: «يشقها النيل ويمتد بها إلى حافة البحر قادمًا من صحارى هائلة، بها جبال تحوى أنواعا متنوعة من كنوز المعادن.. أرض لا يحكمها أهلها، ينزح إليها كل راغب فينقب ويعثر، ويستخرج تصريحا للحفر، فيصبح مالكا لواحد من هذه الجبال العظيمة التى لا يملكها حتى الآن أحد».

هكذا يصل نيكولا إلى مصر التى لا يملكها شعبها ولا يدير أبناؤها شئون ثرواتها الضخمة المتنوعة، فهى غنيمة سهلة متاحة للمغامرين الوافدين وقلة من المصريين والمتمصرين الذين ينعزلون اجتماعيا وثقافيا عن الكتلة الشعبية العريضة.

التحديد الدقيق للإطار الزمنى ليس ميسورا، لكن حصيلة المجيء إلى مصر لا يصعب استنتاجها: «ها هو نيكولا المأسوى يملك جبله فعلا.. فأى ثمن رهيب ذلك الذى دفعه فيه؟».

منذ اللقاء الأول، يقع نيكولا في غرام المكان ويهيم به. لا تمثل المكاسب المادية هما وحيدا ينشغل به ويركز عليه مثل شريكيه المصرى والإيطالي، خليل باشا وماريو: «كانوا جميعا يحلمون بالذهب بينما نيكولا كان مبهورا، يحلم بالمعرفة في بحر التجوال».

الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وثيقة الصلة بالنظام السياسى الهش والنهب الاستعمارى المنظم، لا تغيب أو تتوارى في رحلة نيكولا الطويلة مع المكان والزمان، ولا يمكن إغفالها أو إهمالها بطبيعة الحال: «في تلك الأيام كان للأجانب في مصر كلمة عليا، وحق يكاد يكون موروثا».

يمتد العمر بالأجنبى الوافد، الذى يذوب عشقا في المكان ويندمج مخلصا مع ناسه، ليرى «الهيلمان يذهب وينزاح»، وخلال ذلك يحتك نيكولا مع أعمدة النظام، الملك ورموز الطبقة المهيمنة، ويدفع ثمنا فادحا للاقتراب منهم والتفاعل الاضطرارى مع رذائلهم، لكن العنصر الأكثر أهمية في تجربته الفريدة يتمثل في محورين متلازمين متكاملين: المكان والموت.

يقف نيكولا على عتبات الموت في الصحراء المهلكة القاسية التى لا ترحم، والفضل في نجاته وعودته إلى الحياة مردود إلى «إيسا»، ابن المكان الذى يرث منظومة القيمة والتقاليد الحاكمة: «لم يحصل نيكولا على الموت الذى تمناه في تلك اللحظة القديمة بعد خمسة أيام من الضلال في تيه العطش، وأصابعه الدامية المغروسة في الأرض قد فشلت في إخراج الماء من الصخر».

أسطورية إيسا لا تقل في توهجها عن نيكولا، لكن الشاب عظيم الحضور يصل إلى النهاية المأساوية الكابوسية في البئر التى تلتهمه وبعض رفاقه في مشهد يبدع صبرى موسى في تقديمه، كاشفا عن الوجه الآخر شديد القسوة للمكان الرهيب.

قد تكون المغامرة هى الدافع الأساس لمجيء نيكولا إلى مصر بحثا عن الثراء، لكن «نداهة» المكان تستقطبه فيتحرر ويؤثر البقاء بعد رحيل ماريو. لم يعد واحدا من قطيع الأجانب الوافدين المسلحين بشراهة الطمع المادي، ذلك أنه يتحول إلى جزء من المكان متوحدا به زاهدا في مغادرته والانسلاخ عنه:»عبر هذا الزمن الطويل الذى لم يعد نيكولا يستطيع تقديره يصل إلى حالة من الوجود تقترب من اللاوجود.. فعلام يتغذى ذلك الهيكل العجوز العاري، المتوحد على قمة الدرهيب بجوار فتحة ساكنة لمنجم مهجور، كان إلى وقت قريب ينبض بحركة الحياة.

أى عناد يبقيه حيا بين هذه الصخور الحادة بأشكالها المغرقة في الغرابة، إلا شعور متفرد ونادر يملؤه ويوحى له ويقنعه بأن جسده البشري، ذلك المكان المحدود الذى يحتوى روحه اللا محدودة قد ذاب وانتشر وامتزج عضويا في ذلك المكان الأم».

فكرة الوجود تقترن بالبقاء في المكان، دون نظر إلى غياب المقومات التقليدية الضرورية لاستمرار الحياة. التحرر من الجسد لا يعنى السقوط في هاوية الضياع والذبول، و«الحلول والاتحاد» في روح المكان، بالمعنى الصوفى الذى يمنح القوة والزاد، يرتفع بنيكولا إلى مرحلة يحلق فيها بعيدا عن الطبيعة البشرية وقوانينها التى تحكم غيره، فهو يذوب ويمتزج عضويا في المكان الأم الذى يحتويه ويرحب باندماجه.

ثقافة نيكولا لا تحظى بالاهتمام في الرواية، فلا شيء يشغله إلا العمل، لكنه صاحب رؤية فلسفية عميقة لا شأن لها بالأطر النظرية، ذلك أنها مستمدة من الخبرات والتجارب والتواصل مع المكان وعطاياه الروحية: «هناك قرابة حقيقية بين كل الكائنات.. الشمس المسلطة على مشرق الجبل.. الجبل الرابض تحت الشمس ممتدا بجذوره الصخرية العتيقة في حافة الوادى الذى خلفوه وراءهم منذ ساعات.. الأرض الرملية والأرض الصخرية في البقعة المحيطة بفوهة البئر الساكنة.. بل البئر ذاتها.. وصور أخرى لصخور مفعمة بالنباتات الخريفية اللون الحادة التكوين.. الشبيهة بشظايا الصخور.

كل ما على الأرض ممتد في الأرض.. وهو خارج منها وعائد إليها لا محالة.

كل ما على الأرض دائم التحول والتبدل والتغيير.

«وحدة الوجود» فلسفته التى يعتنقها عبر التفاعل مع المكان، وعندئذ تتحول الشمس والجبال والصحراء والصخور إلى مفردات لا يتشكل المعنى الصحيح للحياة إلا باكتمالها وتداخلها، وما الإنسان إلا مفردة تتشابك مع ما يحيط بها من مكونات الطبيعة، ومثلها يتحول ويتبدل ويتغير، لكنه لا يزول.

تتبلور شخصية نيكولا وتكتمل عبر الاندماج والذوبان في المكان من ناحية والتواصل مع أبنائه المخلصين الخارقين من ناحية أخرى، لا شك أن موت إيسا يترك فراغا هائلا ويقود إلى الشعور الطاغى بالوحدة: «لقد كان إيسا بديلا لماريو.. كما كان ماريو بديلا لامرأتيه الصديقتين التى تُسمى كل منهما إيليا.

والآن ها هو قد أضاع الجميع وصار وحيدا.

الشيخ على، عم إيسا وجد ابنه، الحكيم العميق ذو العين الواحدة، الخبير بخبايا الصحراء وأسرارها، أيقونة أخرى في حياة نيكولا الذى لا يجد في الأجانب والمستغربين من المصريين نماذج جديرة بالاهتمام والصداقة.

في حياته المغايرة للسائد والمألوف، قد يخوض نيكولا مغامرة جنسية عابرة مع إقبال هانم، زوجة خليل باشا، لكنه قادر على الزهد والاستغناء كأنه راهب يتعالى على الدنيا وشهواتها، والطبيعة عنده بديل مشبع لاحتياجات الجسد: «لم يشعر أبدا بحاجته إلى امرأة.. فقد كانت الطبيعة من حوله امرأة عظمى احتوته واستأثرت بجموحه وحيويته».

بعد مجيئه إلى مصر، يتواصل نيكولا مع زوجه بالرسائل ويتابع أخبار ابنته، وعند زيارة الزوجة والابنة للقاهرة، تبدأ المبارزة بين الزوجين بحثا عن طبيعة المستقبل الذى ينتظر العائلة الصغيرة، الفشل في الاتفاق يقود إلى تأجيل الحسم حتى يغير أحدهما موقفه، لكن الجديد المثير هو تعلق إيليا الصغرى بأبيها وإصرارها العنيد على البقاء معه، متنقلة بين العاصمة حيث المدرسة الإيطالية وقصر أنطون بك الذى يستضيفها، والجبل حيث العمل والحلم، ولعل مأساة النهاية تبدأ من هنا.

عودة نيكولا إلى أوروبا والاندماج مجددا في الإيقاع السائد هناك لم تعد ممكنة، ذلك أن الابتعاد عن المكان الذى يعشقه غير مطروح: «لقد جعلت من الدرهيب زوجتك وأولادك وبيتك.. وأقمت فيها حياة عائلية جديدة على المستوى الرجولي.. عائلة كبيرة كلها من الرجال.. حياة جديدة خشنة جافة وقاسية لكنك تعودتها شهرا بعد شهر، حتى صارت حياتك التى كانت لك من قبل ذلك نوعا من الوهم الغامض والخيالات».

العائلة الجديدة قوامها الجبل ورجاله، والمتعة التى لا يمكن الاستغناء عنها قائمة في الخشونة والجفاف والقسوة الغنية بالتحقق والمعنى. تندمج إيليا الصغيرة مثله في العالم الذى يروقها وتستمتع به، تقضى شهور الصيف كلها مع أبيها، وتضفى الجمال والحنان على حياته، إنها ربة البيت، وزهرة المدينة الجبلية الصغيرة، وصانعة البهجة والمرح.

تنمو الطفلة فإذا بها شابة جميلة صاعقة الفتنة، يشتهيها أنطون بك المحروم المعذب بالمرض المزمن للزوجة، ولا ينجو الملك فاروق من الإعجاب بفتنتها فيكون الرجل الأول في حياتها، تعود إيليا مرهقة من تجربتها الجنسية الأولى، الأقرب إلى الاغتصاب، ويستيقظ نيكولا من نومه الثقيل بفعل السكر فيجدها مطروحة مغتصبة منهكة فوق السرير المجاور له.

تتفاعل أحلام نيكولا الجنسية التى يغادرها لتوه مع رؤيته لإيليا في وضعيتها غير التقليدية، فيتوهم من فرط سكره أنه الفاعل الآثم للخطيئة الكبرى. الشروع في الانتحار رد فعل منطقى مبرر، لكن اقتناعه السريع بأنه من يضاجع ابنته لا يخلو من الخلل والاضطراب، وأخطر ما في هذا التوهم، على صعيد البناء الفني، أنه الصانع الأهم للأحداث التالية حتى محطة النهاية.

الموت انتحارا في أحضان الماء عقوبة مستحقة يسعى إليها نيكولا للتخلص من لعنة الإثم الوهمى الذى يطارده ويثقل روحه، وإنقاذه من الموت لا يعفيه من إصابة خطيرة تلحقها به سمكة القرش وتفضى إلى العجز الجنسي.

الأمر مختلف عند أنطون بك الذى يعرف الحقيقة ويستثمرها للزواج من الفتاة التى تحمل جنينا ملكيا، ولا يتورع عن إشهار إسلامه ليصل إلى غايته راضيا بأن يكون أبا ورقيا. إنجاب الطفل يصل بأزمة نيكولا إلى ذروتها، فهو يعى عقم أنطون، فهل من رجل غيره؟

اختطاف الطفل وتقديمه قربانا للوحوش والطيور الكاسرة، فعل جنونى مفزع يقدم عليه نيكولا الآخذ في التدهور والانهيار، والصفعة القاضية يتلقاها بموت إيليا كأنها تسدل الستار على حكايته الغرائبية ذات الطابع الأسطوري. بنهاية كهذه، تكتمل الدائرة المعقدة، وتُقرأ الكلمات الواردة في مفتتح الرواية على ضوء البناء الدائري: «اسمعوا منى بتأمل يا أحبائي، فإنى مضيفكم اليوم في وليمة ملوكية، سأطعمكم فيها غذاء جبليا لم يعهده سكان المدن، بينما أحرك أرغن لسانى الضعيف وأحكى لكم سيرة ذلك المأساوى نيكولا.. هذا العجوز الذى أعطته أمه اسم قديس قديم حين ولدته في ذلك الزمان البعيد، في بلدة لم يعد يستطيع أن يتذكرها الآن».

تنعقد البطولة في رواية صبرى موسى غير التقليدية للمكان ذى الخصائص الاستثنائية مقارنة بالسائد في جملة الإنتاج الروائى المصرى حتى نهاية ستينيات القرن العشرين، ومن البدهى أن تنعكس روح المكان على الشخصية المحورية التى تتسم بملامح أسطورية غير معهودة، كأنها قادمة من زمن مختلف، مثلما هى وافدة من مكان مغاير للبيئة المصرية. نيكولا إنسان عالمى يتجاوز الانتماءات الوطنية والقومية، ولأنه بلا وطن محدد فإنه يعبر عن الإنسان في رحلته المضنية للبحث عن إجابات مقنعة مشبعة لأسئلة الحياة والموت، ومغزى الوجود، وأسرار وخفايا الصراع بين الإنسان ونفسه من ناحية وصراعاته مع الآخرين من ناحية أخرى، فضلا عن الصدامات والمعارك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى لا تغيب عن عالم الرواية، لكن الروائى يبتعد عند طرحها عن المباشرة الفجة والصوت الزاعق.

في الرواية شخصيات شتى متقنة البناء، مع تباين منطقى في الأدوار التى تلعبها ودرجة تأثيرها، لكن نيكولا بالمزيج الأسطورى الواقعى الذى يتشكل من خلاله، وعبر اندماجه في المكان كأنه جزء أصيل موغل في القدم من مكوناته، ليس كغيره من صانعى العالم الروائي، ذلك أنه مركز هذا العالم وجوهر حركته وإيقاعه.