الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تحولات الفكر الاستراتيجي المعاصر «3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع المفكر المصرى الراحل السيد يسين فى كتاب «تحولات الفكر الاستراتيجى المعاصر.. من الاستقلال الوطنى إلى الدولة التنموية».. والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بقوله: «مهما كان من شمول التعريف الذى نتبناه للاستراتيجية، والذى لا يقنع بالتركيز على الجوانب العسكرية، وإنما يتسع ليشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فإنه سيظل ناقصا، ما لم يكتمل بإضافة بُعد أساسي، وهو الوعى التاريخي.
الوعى التاريخى - فى واحد من تعريفاته الدقيقة - هو «البنية الكلية لمختلف الأشكال التى نشأت تلقائيا، كالرواية والحكاية والأسطورة، أو تلك التى أبدعها العلم، والتى من خلالها يعى المجتمع ماضيه، من خلال إعادة إنتاج الأحداث وتقييمها. أو بعبارة أخرى، التى من خلالها يعيد إنتاج حركته عبر الزمان.
إن الانتفاضة الفلسطينية والتى هى ثورة شعبية، بكل ما تحمله كلمة الثورة من معنى، ليست مقطوعة الصلة بالتراث العربى النضالى فى العصر الحديث، بل هى حلقة فى سلسلة ممتدة من الهبات والانتفاضات وحروب التحرير الشعبية التى اندلعت فى العالم العربى ضد الاستعمار الأجنبى بكل صوره وأشكاله، ما كان منه مجرد احتلال عسكري، أو ما كان استعمارًا استيطانيًا، كالاستعمار الاستيطانى الفرنسى فى الجزائر، والاستعمار الاستيطانى الصهيونى فى فلسطين.
وليس هناك من شك فى أن الصدمة الحضارية بالغة العنف التى أصابت المجتمع المصرى العربى حين انتصر الفرنسيون على جيش المماليك فى حملة نابليون المعروفة. كانت بداية - ولعلها كانت مواصلة - لنهضة شاملة فى الوطن العربي، كان هدفها سد الفجوة العميقة بين التخلف السائد والتقدم الأوروبي، وهذه النهضة التفتت منذ وقت مبكر إلى أهمية تحديث التكنولوجيا العسكرية، ليس فقط من خلال استيراد السلاح من مختلف مصادره فى أوروبا، ولكن باقتحام الطريق الأصعب، وهو إقامة مصانع وطنية لإنتاج السلاح، وهو درس قديم، علينا أن نستعيده، إذا شئنا أن نمتلك إرادتنا السياسية.
مثلما غاب البعد الاجتماعى من النظرية الاستراتيجية، ونعنى تحديدًا افتراضها ثبات النظام الاجتماعى وعدم تغيره، وبالتالى تركيزها على القوة المسلحة التقليدية، مما جعل دولا فائقة التسليح تنهزم فى حرب التحرير الشعبية، كما هزمت فرنسا فى الجزائر، والولايات المتحدة الأمريكية فى فيتنام، فقد غاب عن النظرية الاستعمارية الاستيطانية بُعد أساسى وهو حتمية ثورة المستعمرين، مهما طال أمد الاحتلال أو الاستعمار.
والواقع أن العلاقة بين الدولة الاستيطانية والسكان الأصليين عادة ما تكون علاقة معقدة، ويمكن القول إنه يحكمها اعتباران. الأول عنصرى والثانى نفعي.
الاعتبار العنصرى يظهر فى شعور المستوطنين بالتفوق إزاء السكان الأصليين، مما يدفع إلى عدم الاختلاط بهم، حفاظا على نقاء «عنصرهم»، والاعتبار النفعى يكشف عن نفسه فى حاجة المجتمع الاستيطانى إلى أيد عاملة رخيصة من بين السكان الأصليين، مما يجبر المستوطنين على الاختلاط بهم. وهكذا يقع المستوطنون فى هذا التناقض، ونعى الرغبة فى الابتعاد عن السكان الأصليين، والاضطرار إلى الاختلاط بهم، مما يجعل العلاقة بين الطرفين بالغة التعقيد.
وقد صور الباحث الفرنسى اليهودى التونسى الأصل «ألبير ميمى» العلاقة المعقدة بين المُستعمِر والمستعَمَر فى كتاب شهير له بنفس الاسم. ولم يكن يدرى وهم يكتب عام ١٩٥٥، وفى ذهنه الاستعمار الاستيطانى الفرنسى فى الجزائر، أن ما رسمه بدقة بالغة، ينطبق انطباقا دقيقا على العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
يقول ميمى فى فصل بعنوان: «إجابتان للمستعمر»، ويقصد أن هناك استجابتين عادة ما تصدران عن الشعوب المقهورة فى ظل نظام استعمار استيطاني. فهذه الشعوب إما أن تذوب فى إطار ثقافة المستعمرين وتحاول تقليدهم، وإما أن تثور عليهم، وفى حالة الثورة والتى قد تبدأ بمجرد إعلان الرغبة فى تغيير الأوضاع السيئة التى يرسف فيها الشعب المقهور؛ فإن المستعمرين يخدعون أنفسهم لو نسبوا هذه الحركات الثورية إلى فعل قلة من المثقفين من بين أعضاء البلاد الأصليين، أو إلى تفاعل عناصر خارجية».
عن الفهم الحقيقى للنظام الاستعمارى الاستيطانى يؤدى بنا إلى تأكيد أنه نظام قلق وغير مستقر. وإذا كان يستطيع لفترة ما أن يجابه التحديات التى تواجهه؛ فإنه لا يستطيع أن يعيش صامدًا إلى الأبد. إن الشعب المقهور يمكن أن يصبر طويلا. ولكن فى لحظة تاريخية ما، يبرز موقف ثورى يدعوه إلى أن ينفض عن كاهله كل القيود، ويثور بكل عنف، مستعينا فى ذلك بوعيه التاريخي، ومتجاوزا كل الحدود، بل وسابقًا لكثير من القيادات التقليدية، التى قد تكون آثرت سبيل التفاوض والحلول الوسط، والتكيف مع النظام الاستعمارى الاستيطاني. إن الثورة هنا تبحث عن قطيعة حاسمة مع النظام الاستعماري، ولا تبحث عن حلول وسط. إنه هدفها الأسمى هو إعادة اكتشاف الذات الفاعلة، واسترداد الكبرياء الوطني.
وللحديث بقية..