الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فلسفة الكذب ومواجهة الشائعات.. في مكتبة الإسكندرية «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سألنى الكثيرون من القراء والأصدقاء عن دلالة مصطلح «فلسفة الكذب». لذا اجتهدتُ فى البحث عن تأصيل ذلك المصطلح، فاهتديُت إلى أن ذلك المصطلح قد وَرد فى شذرات عديدة من تعاليم حكماء الشرق فى مصر وبابل وفارس والهند. بالدلالة والمعنى وليس اللفظ.
وجاء فيما رويَ عن فلاسفة اليونان ومحاوراتهم ولاسيّما فى مساجلات (السفسطائيين، حوارات سقراط، أفلاطون، وكتابات أرسطو). وكان مصطلح الكذب يعنى نقيض الحق والصدق والمنطقى والموجود، الأمر الذى جعلهم يخرجون الفن وعلم الجمال من دائرة التعبير عن الحقيقة. أما فلاسفة العصر الوسيط ولاسيّما «القديس أوغسطين (٣٥٤م-٤٣٠م)» فقد ذكر الكذب فى إحدى رسائلِه بيّن فيها أنه من أبشع الرذائل وهو ضد الإيمان، وذلك لأن من يردد الأكاذيب دون تحقق يصبح مضللًا وخائنًا لأمانة الصدق.
وفى الفكر الفلسفى الحديث ربط الفلاسفة بين مصطلحيِ التجديف والكذب، فكلاهما ادعاء مخالف للحقيقة والواقع، سواءٍ فى دائرة المقدس أو ميدان العلم، كما ذهب «كانط (١٧٢٤م-١٨٠٤م)» إلى اعتبار الكذب أسوأ الموبِقات التى يتجاوز شرها الرذائل الخُلقية إلى الجنايات والجرائم الإنسانية، ووضح ذلك فى مقولتِه «إن أبشع أنواع الكذب هو الذى تمارسه الذات مع الآخرين، والأبشع منه هو الذى تُقنِع به ذاتها، لأن الكذب الممنهج يغتال الضمير».
ولم يُفرق «كانط» بين ما نُطلق عليه الكذب الأبيض مثل المجاملة والمداهنة، أو الكذب الأسود المُتعَمد.
أما فى الثقافة العربية فقد تناول متكلمو الإسلام وفلاسفة المشرق والمغرب الكذب بمعنيين، أولهما أخلاقى يستند إلى قائمة المَنهِى عنه فى القول والسلوك، والثانى فلسفى وهو ضد المعقول والمتسق والمنطقى والمُثبت بالتجريب والبرهان. وقد استثنوا الفن، وخالفوا بذلك نظرية المُحاكاة. وذلك كله بمنائ تمامًا عما يحدث فى ميدان الشعر والأدب والقصص الخيالي.
وفى الثقافة العربية الحديثة لا نكاد نجد أشهر من كتاب «فلسفة الكذب» لمحمد مهدى علام (١٩٠٠م-١٩٩١م)، ذلك المفكر التربوى واللغوى المخضرم. الذى ناقش فيه معنى مصطلح «فلسفة الكذب» وعلتِه ومقَاصدِه وأشكالِه وأثارِه وتباعِته وبنيتِه ولغتِه.
والطريف أن «فلسفة الكذب» قد أضَحى من المصطلحات الشائعة فى كتابات الفلاسفة وعلماء النفس والتربية والاجتماع والتاريخ فى الفكر المعاصر. وذلك منذ أخريات الستينيات من القرن الماضى (نحو ١٩٦٥م)، فى الثقافتين العربية والأوروبية.
ها هو الفيلسوف الألمانى «فريدريك نيتشه» (١٨٤٤م-١٩٠٠م) يقول «الحق إنه لا يسيرنى اكتشافى أنك كذوب، ولكن كل أسفى على عدم استطاعتى تصديقك بعد ذلك». 
وهنا يُشير «نيتشه» إلى انعدام الثقة، الذى يحدثه الكذب المُمنهج. فما أبشع الشك والارتياب إذا ما وقع بين الرأى العام القائد والرأى العام التابع، فذلك يؤدى حتمًا إلى تفكيك المجتمع وانقسامه. 
بينما ذهبت الفيلسوفة الأمريكية «حنة آرندت» (١٩٠٦م-١٩٧٥م) إلى اعتبار الأخبار المغلوطة (Fake News)، فى ميدان العلم والسياسة والإعلام والتاريخ والأخلاق كيانًا واحدًا يحوى الزيّف والخداع.
وبالجملة «ففلسفة الكذب» عندها هى ذلك الخطاب والنسق والسياق الذى يُنقل من المتكلم إلى المُتلقى بُغية تضليله عن قصد أو غير قصد، إذا كان مُخالفًا للحقيقة. 
أما «جاك دريدا» (١٩٣٠م-٢٠٠٤م) فقد ربط بين الكذب باعتباره فعلاً مخادعًا ومضللاً للآخرين وألاعيب الساسة والمزيفين للوقائع، وهو فى كل صورة يحمل بين طياته الشر، وهو بطبيعة الحال نقيض الخير المصاحب دومًا للصدق والحقيقة.
ويؤكد «دريدا» أن أخطر أشكال الكذب ودروبِه وأنواعِه، هو الذى يسلكه الساسة وتجار الكلمة فى خطابتهم ومبرراتهم وحججهم ووعودهم، وذلك لأنه فى مقدورهم تزيِّيف الواقع وطَمس الحقائق إذا حاول المُتلقى البحث عن مصداقية أقوالهم بالطرق التحليلية التقليدية. وعليه فهو يدعو إلى استخدام ضروب (التفكير الناقد) لكشف زيّف أكاذيب الساسة، أولئك الذين نجحوا إلى حد كبير فى ابتداع وتطوير نسقية للكذب حتى تبدو فى عيون وأذهان ومسامع المُتلقين على أنها الحقيقة. 
وقد أسعدنى كثيرًا تلبية العديد من الجامعات المصرية والمنابر الثقافية، لدعوتى لعقد حلقات نقاشية تجمع بين أكابر المتخصصين والمعنيين بحروب الجيل الثالث والرابع. -التى اتخذت من الشائعات والاخبار المضللة أسلحة لها، لتفكيك المجتمعات وتدمير الدول وتبديد الأمن فيها - وذلك لتثقيف الطلاب والرأى العام بأقوى المضادات لهذه الحرب الشرسة.
فلبيت دعوة جامعة أسيوط وذلك فى الندوة التى عقدتها بتاريخ (١٠\١٠\٢٠١٩). تلك التى تحدثت فيها عن فلسفة الكذب وكيفية تحليل أنساقها، والكشف عن المغالطات التى يتعمد مبتدعوها وضعها على نحو حِرفى وتقنى عالِ المستوى لخداع العقل الجمعي، الأمر الذى يستوجب التدريب على التفكير الناقد لفضح المستور وكشف التدليس وتبيّان الحقيقة.
وقد سُعدت أيضًا بالدعوة الكريمة التى أرسلت إلى من قِبل المفكر السياسى المخضرم «الأستاذ الدكتور مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية»، وذلك لحضور إحدى الحلقات البحثية الراقية التى عُقدت يوم الخميس الموافق (٧\١١\٢٠١٩) وذلك فى صورة ندوة ثقافية بعنوان «مواجهة الشائعات وتماسك الدولة»، لإيجاد السُبل لدعم وطننا لمواجهة حرب الشائعات الممنهجة التى يقودها العديد من الجهات المعادية.
وفى الندوة التقيت بكوكبة من المتخصصين فى محاربة الشائعات والأفكار الجانحة والحملات الرانيّة لتزييّف الوعي. (إعلاميين، دبلوماسيين، أدباء ومؤرخين، علماء نفس واجتماع وسياسة، ومتحدثين رسميين عن مؤسسات الدولة ولم يكن هناك غيرى من المعنيين بالدراسات الفلسفية وتحليل الخطابات).
وقد استهلها «الدكتور مصطفى الفقي» - بمفاده - يخطئ من يعتقد بأن رسالة المكتبة التثقفية التنويرية بمعزل عن قضايا الرأى العام، فرسالة المكتبة وبرامجها التى ترمى إلى: إحياء النفيس وإبرازه وتجديد الخطابات وتفعيلها، وتطوير المشروعات وتحديثها ولا يمكن أن ينسيها أو يبعدها عن مقصدها وغايتها الرئيسية، ألا وهى تثقيف العقل الجمعى وتوعيته ونقض كل الآراء الجانحة والجامحة، التى تهدد أو تضلل أو تزيّف مشخصاتنا وهويتنا، وفى هذا السبيل دأبت المكتبة على عقد الندوات الفكرية مع صفوة الخبراء والعلماء والمفكرين والمعنيين بالقضايا المطروحة. وها نحن اليوم نناقش قضية الشائعات التى أضحت سلاحًا تستخدمه أعداء البلاد للنيّل منا ومن استقرارنا وأمان أمتنا وتحول بيننا واستكمال السير إلى الأمام نحو الإصلاح، وإعادة البناء والنهوض بالمجتمع ورقيه. علمًا بأن الكذب الممنهج أضحى نهجًا له أسس وقواعد، يجب التعرف عليه ودراسته، الأمر الذى يمكننا من التصدى إليه ومجابهته، وهذا ما سوف يُستمع إليه بشيء من الإيجاز فى كلمات الأساتذة الحضور.
والحق أنى استفدت الكثير من الكلمات التى تناولت حرب الشائعات والأكاذيب الدائرة.
وللحديث بقية..