الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الثابت والمتغير في مصر والمجتمعات العربية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قرأت قصة قصيرة ذات مغزى، وإن كنت لا أعرف بالضبط أين ومتى وقعت، وإن كانت قد حدثت بالفعل أم لا؟
القصة عن أحد الملوك العرب، أراد أن يستغل مستجدات عصره من تكنولوجيا وأسلوب حياة وحريات شخصية، وأن يكسر جمود الحياة الاجتماعية والقيود فى مملكته. وأرسل إلى رجال الدين، وكانوا يحكمون ويتحكمون ويحللون ويحرمون فى نمط الحياة اليومية فى المملكة. وطلب لقاءهم فى قصره، فجاءوا جميعًا، كل فى سيارة فارهة مكيفة، ويلبس أغلى الثياب.
وما إن عرض عليهم الملك وجهة نظره فى تخفيف القيود ومنح مزيد من الحريات، حتى ثاروا ورفضوا بحجة أن ذلك لم يكن موجودًا على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن كل مستجدة هى بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة فى النار. فما كان من الملك إلا أن شكرهم وسمح لهم بالانصراف. وما إن خرجوا وتوجهوا إلى سياراتهم إلا أنهم وجدوا سياراتهم الفارهة قد تحفظ عليها الملك، وأنه قد أتى لهم بجمال بديلاً عن السيارات. انزعج المشايخ وعادوا إلى الملك، وقالوا كيف نعود إلى ركوب الجمال وقد رزقنا الله بما هو أحدث، فقال سبحان الله، ألم تقولوا إنكم متمسكون بما كان يفعل رسول الله. قالوا أدركنا قصدك، أن لكل عصر مستجداته.
تذكرت هذه القصة وأنا أرى تغييرًا واضحًا فى معظم البلدان العربية وفى نفس الوقت أرى تيارًا مصريًا يحاول أن يقاوم التحديث، ويتمسك بكل ما هو موروث وتقليدى بحجة أن ذلك ما وجدنا عليه آباءنا.
ولقد لاحظت التطور الكبير الذى طرأ حديثًا على نمط الحياة الاجتماعية والسياسية وحقوق المرأة فى العديد من البلدان العربية، خاصة فى المملكة العربية السعودية الشقيقة.
فحتى فترة قصيرة، كانت هناك قيود اجتماعية وعادات وتقاليد جامدة، فمثلا لم يكن مسموحًا للمرأة بقيادة السيارة أو السفر بمفردها، أو العمل فى المطارات والفنادق والمحلات العامة. وكان النقاب هو الزى الرسمى لكل النساء فى المملكة. واليوم، حدثت انفراجة كبيرة وتطور مذهل، وتحركت المملكة نحو الحداثة والمعاصرة، والابتعاد عن الصورة النمطية شديدة التحفظ. ولقد أصبحت المملكة خلال فترة قصيرة من أكثر البلدان العربية انفتاحًا على الثقافة والترفيه وإقامة المهرجانات، وواكب ذلك أيضًا انفتاحًا على كل ماهو جديد وعصري، وكل مايبعث على السعادة وإطلاق الحريات الشخصية والعامة. ووفقًا لتقارير دولية فقد حقق قطاع السفر والسياحة ٩.٤٪ من إجمالى الناتج المحلى للمملكة فى عام ٢٠١٨، ومن المتوقع أنّ يزداد الوافدون إلى المملكة بنسبة ٤٪ سنويًا، وفقًا للمجلس العالمى للسفر والسياحة (WTTC)، ليصلوا إلى ٢٢.١ مليون بحلول عام ٢٠٢٢. وفى مجال الترفيه، نظّمت الهيئة العامة للترفيه أكثر من خمسة آلاف احتفالية مباشرة استضافتها ٥٦ مدينة فى عام ٢٠١٨، بما فى ذلك العروض الموسيقية والعائلية، والكوميدية، والعروض التى قدمتها أشهر الفرق الموسيقية العالمية، وهو العدد الأكبر منذ سنوات.
كما ساهم رفع الحظر عن دور السينما فى خلق ألف فرصة عمل جديدة.
وبعكس باقى الدول العربية، فقد ظلت مصر طوال تاريخها الطويل دولة متعددة الثقافات والأجناس (Cosmopolitan). وظلت مصر بحكم موقعها الجغرافى وإرثها الثقافى مواكبةً لتطورات عصرها، فمنذ فجر التاريخ حافظت مصر على أصولها، وواكبت مستجدات ومستحدثات وتطورات العصور التى مرت عليها.
فقد حافظت على تراثها وآثارها التى أبهرت العالم. وعرفت التوحيد قبل ظهور الأنبياء. واحتضنت اليهودية والمسيحية والإسلام. وعاش على أرضها اليونان والرومان والعرب والمماليك والأتراك والإنجليز والفرنسيين، وحافظت على الأصالة والمعاصرة، بل وفرضت شخصيتها المعتدلة على كل من عاش فيها.
ولقد شاهدت مصر ومنذ منتصف القرن الماضي، ورغم الزخم السياسي، وقضايا التحرر والحرب والسلام، تغيرات جذرية فى الشخصية المصرية، وبرغم كل ذلك فقد ظلت دولة منفتحة على العالم، تحترم الجميع وتفرض رؤيتها وأصولها على الجميع. وكانت الحرية الشخصية فى الملبس والمظهر العام، والتعدد السياسى أهم سمات المرحلة التى كنت أدرس فيها فى طب المنصورة فى أوائل الثمانينيات. فكانت الندوات والأمسيات الثقافية الأسبوعية تستضيف جميع الأطياف دون تفرقة، وكان التعدد والوسطية والتسامح هى أهم مميزات الشخصية المصرية فى تلك الحقبة. ثم ابتليت مصر بعدها بطوفان من الجماعات الدينية المتشددة، فظهر الحجاب ثم النقاب، وظهر التيار الديني، وسيطر بل واكتسح الانتخابات واتحادات الطلاب، وظهر المشايخ من بين الطلبة (خاصة طلاب الطب والهندسة)، ومن بين أساتذة الجامعة، ومن بين المشايخ والوعاظ فى المساجد والزوايا والمدن الجامعية، من كل حدب وصوب. وسيطرت الآراء المتشددة على المشهد العام، واختفت التعددية والوسطية التى كانت سمة مصر طوال تاريخها.
ومع سيطرة التيار الدينى على الداخل المصري، فقد عادت مجموعات كبيرة من المصريين الذين نزحوا إلى دول الخليج الغنية بالنفط. عادوا ومعهم أموال كثيرة، وأفكار وموروثات من المجتمعات التى تأثروا بها، فظهر النقاب والتدين الشكلى فى المدارس والجامعات والمستشفيات. والأخطر من ذلك هو افتتاح المدارس والمستوصفات، وبذلك تم لهم الانتشار على مجال واسع، وتخريج أجيال جديدة متشبعة بالفكر المتشدد. واليوم، وبعد أن تخلت الجزيرة العربية عن الفكر المتشدد، فما زلنا نحن ندفع الثمن، وما زالت أفكار التشدد والتدين الشكلى تسيطر على أفكارنا، وما زلنا نعانى الانغلاق والجمود الفكري، بينما يتسارع الجميع من حولنا للحاق بقطار الحداثة والمعاصرة. 
فمتى نستفيق ونعيد لمصر أهم سماتها وهى الوسطية والاعتدال وقبول الآخر والتعايش السلمى ومواكبة العصر؟