الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

انتكاسة مهنة الطب... فهل من أمل؟!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان الأطباء يسمون قديمًا بـ«الحُكَمَة» لواسع معرفتهم بالطب والفلك والرياضيات وربما الأدب، وكان من بين الأطباء الأديب المبدع مثل يوسف إدريس ومصطفى محمود والشاعر المُرهف مثل إبراهيم ناجى والسياسى البارع مثل فؤاد محيى الدين. وجلس على كرسى الوزارة أطباء أجلاء كإبراهيم بدران وممدوح جبر ومحمود محفوظ. واعتادت دول الشام أن تطلق على الطبيب حكيمًا وما زالت نقابة الأطباء بقصر العينى تسمى «دار الحُكمَة». وكانت وربما ما زالت تتمنى معظم الأسر المصرية أن يكون أحد أبنائها حكيمًا، فدَخَلَ كلية الطب أكثر الطلاب تفوقًا وأعلاهم مجموعًا. وكان الدخول إلى رواق الأطباء له احترامه ووقاره. وكان بإمكان الطبيب العيش فى مستوى كريم تعويضًا عن السنين العديدة والمُجهدة التى قضاها فى التعليم والتدريب. وكان أوج المهنة وكمال بريقها فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حين كان التناسب متزنًا بين عدد المرضى وعدد الأطباء وعدد الأسرة بالمستشفيات. ثم دخلت الدولة فى مرحلة من التخبط وعدم الإدراك ثم الترنح وفقدان الوعى منذ السبعينيات وما فوقها فلا سياسة واضحة للصحة فى مصر ولا تخطيط يذكر للعمل الطبى فى ربوع البلاد مع ميزانية ضعيفة لا تغنى ولا تسمن من جوع. وتم فى هذا الزمن الكالح التوسع فى مستشفيات تحت السلم التى تفتقد لمعظم مواصفات السلامة والأمان بعد أن عجزت المستشفيات الحكومية والجامعية عن استيعاب عدد المرضى المتزايد مع زيادة السكان. وتوجه معظم الأطباء للعمل فى العيادات الخاصة كمصدر أساسى للرزق. ومع الزيادة الكبيرة فى عدد الخريجين بدأنا نرى المعاناة واضحة فى الجيل الجديد من الأطباء والتى دفعت البعض منهم لتغيير مهنتهم! ورغم أن بعض الأطباء قد ازدادوا بريقًا، خاصة أعضاء هيئات التدريس بكليات الطب وجد على النقيض الكثيرون من شباب الأطباء الطريق مسدودًا أمامهم لتنمية دراستهم وتدريبهم! ومع موجة التخبط والإهمال للسياسات الصحية أُغلِقت معظم الوحدات الصحية الريفية والتى أنشئت فى الستينيات أو جُرِدت تمامًا من إمكانياتها وظلت اسمًا بلا قدرة. وجاءت موجة ثانية من تخبط السياسات وفشلها دفعت بشباب الأطباء، وحتى كهولهم للسفر للعمل بالدول العربية سعيًا وراء الرزق الكريم ولم يعد معظمهم حتى الآن. ثم جاءت الموجة الحالية لتتميز بهجرة الأطباء لأوروبا خاصة بريطانيا وألمانيا لسد العجز لديهم فى أطباء الرعاية الأولية! وهجر العديد من الأطباء وزارة الصحة بعد استمرار تدنى الرواتب التى لا يمكن معها دوام الحياة الكريمة. وأصبحنا لأول مرة نرى عجزًا فى الأطباء العاملين بالصحة ونطالب بتخريج دفعات استثنائية من الأطباء ولا أعرف حتى الآن ما معنى ذلك ولا آلية تنفيذه؟ ومهنة الطب لم تسلم مثل غيرها من المهن من الفساد الذى تغلغل فى أواصر المجتمع فى العقود الأخيرة رغبة فى المال فبدأت قلة من ذوى النفوس المريضة ممارسة نوع من الطب هو أقرب للدجل منه للعلم فوجدنا طبيب الأوزون والليزر والأعشاب وخرط الجسم والشفط والنفخ، وأصبحت العديد من اليفط تحمل فوقها وصفًا لمؤهلات لم ينزل بها الله من سلطان ولا نعرف حتى ما معناها أو مدلولها. ودخل العديد من الأطباء معترك السياسة خاصة تحت عباءة الجماعة البائسة والمنحلة وفتحت المساجد والزوايا مستوصفات داخلها وهو نظام لا يوجد له مثيل فى أى من دول العالم. أصبحنا فى مولد طبى بلا ولِى وسيرك صحى بلا رابط. ولولا تماسك فئة من الأطباء المنزهين عن الغاية والذين يقدسون مهنتهم السامية والجليلة وأكثرهم من العاملين فى المستشفيات الجامعية وأعضاء هيئات التدريس فى كليات الطب والرعيل الأول من الأطباء ذوى الخبرة والحنكة لانهارت المنظومة الصحية بأكملها فى هذا المناخ العبثي. وفى كل زيارة لى لمصر أشعر بالحزن والأسى وأنا أسمع صرخات أبنائى من شباب الأطباء وشكوى زملائى من كهولهم وحزنهم الشديد على ضياع بريق المهنة التى دخلوا أقداسها آملين فأصبحوا نادمين وحالمين فأصبحوا يائسين. والجميع بلا استثناء يتمنون وبصدق حقيقى الخروج من دوامة فشل السياسات الطبية التى وضعت مصر فى ذيل دول العالم فى المجال الصحى باستثناء بعض النقاط المضيئة والفردية هنا وهناك. والمحاولات الجادة لتدريب الأطباء الشبان وتأهيلهم خطوة محمودة ولكنها تحتاج للعديد من الخطوات الأخرى للإصلاح. فحين أرى كفاءة النظم الصحية بالخارج أزداد حزنًا على ما فعلناه بأنفسنا فالطبيب المصرى عملة نادرة تبرق وتُدهش حين تضعه فى منظومة صحية جيدة خارج مصر أو تضعه فى أحد المراكز المتخصصة والمميزة داخل جامعات مصر. ورغم بؤس الحال والكمد على مهنة تحتضر إلا أننى ما زلت حالمًا بحتمية وضرورة التغيير فى هذا القطاع الهام وأرى بوضوح إمكانية حدوثه. فالقطاع الصحى بمصر يحتاج فقط لفارسًا شجاعًا يحمل سيفه ليعدل به المعوج وقائدًا يضع خطة واضحة المعالم ومرحلية التطبيق لإعادة هيكلة المنظومة الصحية كما فعلت العديد من دول العالم التي زرتها لنعيد مصر بإيدينا وعقولنا لتتنافس على المستوى العالمى وننقذ متكاتفين هذه المهنة الكريمة والسامية من الضياع ونحبب أولادنا فيها ونزرع الأمل فى قلوبهم ليثمر علمًا وعملًا ونعيد أطباءنا مجتمعين إلى مقعد الحُكَمَة ووقاره....!