الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. إسكندر منسي.. وجهه أشهر من اسمه

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التمثيل مهنة لا تُورّث ولا تجدى فيها الوساطة والمحسوبية، فهى تحتاج إلى الموهبة والدراسة والقدرة على التأثير والإقناع، والحكم في نهاية الأمر لذائقة جمهور المشاهدين ومدى تقبله للوافدين الجدد.
الممثل الجيد لا ينجب بالضرورة ممثلا، لكن الامتداد قائم عندما تتوافر في الابن شروط ومواصفات الإبداع، وهذا ما نجده في حالة إسكندر منسي، ابن الممثل القدير الرائد منسى فهمي. كلاهما موهوب متمكن، ولا اعتبار هنا لمحدودية الأدوار التى تُسند إليهما، وحجم الشهرة التى يتمتعان بها. إسكندر ليس نجما ذائع الصيت، ووجهه أشهر من اسمه. ممثل محترف جاد، يؤدى واجبه على الوجه الأكمل، ويقدم عشرات الأدوار الصغيرة المتميزة. مثل الكثيرين من أبناء جيله، والأجيال السابقة واللاحقة، يملك إمكانات لايُستثمر إلا أقل القليل منها، والعلة تتجاوز الإطار الفردى إلى المناخ الموضوعى الرديء.



قارئ الكف
البداية في «سى عمر»، ١٩٤١، مترجما وهميا للنصاب قارئ الكف الذى يزعم أنه هندي، وفى العام التالى يقدم مشهدا شهيرا مع عبدالفتاح القصرى في «لو كنت غني»، فهو من يدّعى الجنون لابتزاز عبد الفتاح، قبل أن تُكتشف حيلته فيعيد كل ما سلبه وأكثر. يتكرر ظهوره مع نجيب الريحانى في «لعبة الست»، ١٩٤٦، بائعا في المحل التجاري، وفى «أبو حلموس»، ١٩٤٧، حيث سليمان أفندى الموظف في الدائرة الفاسدة، وأحد مستقبلى الريحانى بالغناء والسخرية.
بداية كهذه تحدد مسار إسكندر عبر أكثر من ثلث قرن، فهو صاحب الأدوار الصغيرة محدودة المشاهد، يؤديها بإتقان واقتدار، ويندمج في منظومة متكاملة متجانسة ممن يشبهونه ويماثلونه. يبرع في تجسيد شخصية الموظف التقليدى وبخاصة في ساحة الحسابات، كما في «ظلمونى الناس»، ١٩٥٠، «لن أعترف»، ١٩٦١، «العبيط»، ١٩٦٦.


إخصائى اجتماعي
الاستثناء النادر هو خروج إسكندر من الدائرة السابقة، فهو أسير هذا العالم في الغالب الأعم من أعماله، والتنوع محدود غير جوهري، كأن يكون ناظر العزبة الفاسد في «سيدة القصر»، ١٩٥٨، أو سكرتيرا لنقابة فراشى المحلات التجارية في «الفانوس السحري»، ١٩٦٠، وهو أيضا الإخصائى الاجتماعي الذى تُسلب سجائره من السجناء في «٣٠ يوم في السجن»،١٩٦٦.
داخل هذه الدائرة، يصل إسكندر منسى إلى ذروة الأداء الممتع عندما يجسد شخصية المدرس الطيب الصعيدي، صاحب اللهجة المختلفة في آذان طلابه وطالباته، ما يدعوهم عادة إلى السخرية والتهكم. هكذاهو في «الجسد»، ١٩٥٥، و«المراهقات»،١٩٦٠، و«الست الناظرة»، ١٩٦٨.
أدق ما يمكن قوله عن إسكندر إنه «واحد من الناس»، يذوب في مجموعة من البشر تشكل جزءا أصيلا من روح المكان، كما هو الحال في «السفيرة عزيزة»، ١٩٦١، وهو ينخرط كذلك في الكتلة الشعبية العريضة التى تعيش يوما بيوم، ولا تتحمل الأعباء الإضافية غير المتوقعة. مصطفى في «أعز الحبايب»،١٩٦١، موظف صغير يعيش في الفيوم مع زوجه، سهير الباروني، وأولاده. لا يكره حماته الطيبة، أمينة رزق، ولا يضيق بزيارتها، لكن إقامتها الدائمة لا تتوافق مع إمكاناته المادية المحدودة: «فهميها كده بالذوق إن حالتنا على قدنا».


مرقص أفندي
مرقص أفندي، زميل حسين، عماد حمدي، وصديقه المقرب في «أم العروسة»، ١٩٦٣، أشهر أدوار إسكندر منسى وأقربها إلى قلوب الملايين من مشاهدى الأفلام المصرية عبر شاشات التليفزيون. موظف مصرى صعيدى قح، وصديق مخلص شهم مؤتمن. يعتمد عليه حسين في مهمة جمع المعلومات الضرورية عن العريس الذى يتقدم لابنته، وهو أيضا من يسعى بخبرته الروتينية العميقة ومعارفه لمتابعة الإجراءات المعقدة لصرف سلفة استبدال المعاش. موقفه الأهم يتمثل في إنقاذ زميله وصديقه من تهمة الاختلاس، التى تعنى السجن والتشريد: «إيه العملة السودة اللى عملتها دى يا حسين.. وعهد الله ما ليك حق واصل.. انت نسيت إن عندك وِلد.. عايز تخيب أملهم وتضيع مستقبلهم.. على كل حال ربنا ستر.. دفعتلك الفلوس اللى ناقصة من عهدتك من جيبي.. ولما تقبض الاستبدال ابقى سددهم».
مرقص مصرى مسيحي، كما ينم اسمه، والموقع الذى يحتله في حياة حسين يكشف بشكل فنى غير مباشر عن طبيعة العلاقات السائدة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، قبل تصاعد الاحتقان ووصوله إلى التوتر المقيت والصدام العنيف في سنوات تالية، بفعل سياسة السادات وتحالفه المشين مع الاتجاهات الدينية الفاشية. لا إشارة واحدة طوال أحداث الفيلم عن الانتماء الدينى للصديقين، ذلك أن البطولة للهم الاجتماعي في المقام الأول.
الإعجاب بإسكندر منسى لا ينبع من مواقفه الإيجابية المحمودة، فكل وأى ممثل آخر يستطيع أن يردد كلماته ويسلك سلوكه، لكن التقدير الأعظم لأسلوب الأداء الصادق كما يتجلى في لهجته الصعيدية المتماسكة، وفى معايشته المقنعة السلسة بلا ادعاء لشخصية الموظف الصغيروالآليات التى تحكم انفعالاته وطريقته في التعبير.
في «الحفيد»، ١٩٧٥، الجزء الثانى من «أم العروسة»، لا يظهر مرقص أفندى إلا في مشهد واحد قصير غير مؤثر، يناول فيه سماعة التليفون لزميله حسين، ثم يقهقه بعد انتهاء المكالمة. لا يُذكر اسمه، ولا فارق بين وجوده وغيابه. ما الذى تغير في مصر؟. استنباط الإجابة المؤلمة ليس صعبا.
فيلمان فحسب هما اللذان يتخلص فيهما إسكندر منسى من أدواره التقليدية المعهودة، فإذا به الطبيب الكبير مفتش الصحة في «صراع الأبطال»، ١٩٦٢، ووكيل النيابة في «المتمردون»، ١٩٦٨، والفيلمان من إخراج توفيق صالح.
هل يملك إسكندر المؤهلات الشكلية والنفسية للتعبير عن الوظيفتين المرموقتين اللتين تقترنان عادة بالقوة والهيبة والسلطة؟. الإجابة بالنفي، وهنا تكمن فلسفة المخرج الكبير في الاختيار. الدكتور مازن تابع منسحق لقوى اجتماعية متسلطة تسخره لخدمة مصالحها، وشخصيته سلبية متهافتة مقارنة بالطبيب الشاب الثورى شكري، شكرى سرحان. ليس أدل على ضعف وهشاشة مازن من مقولته الساخرة، الكاشفة عن جوهر رؤيته: «ما حدش بيموت من الجوع.. الناس بتموت من جهل الدكاترة».
الطبيب مفتش الصحة أقرب إلى الموظف التقليدى منه إلى عالم الأطباء أصحاب الشخصيات القوية المستقلة، فهل من يفوق إسكندر في تجسيد شخصية كهذه؟. الرؤية نفسها تنطبق على وكيل النيابة في «المتمردون»، فلا شىء فيه من القوة والهيبة وجلال النيابة. إنه متواطئ منذ البدء، ومجيؤه إلى المصحة يبدو إجراء شكليا لا يعنى شيئا إلا تسويد الأوراق والتمهيد لتنفيذ مخطط تآمري. يخاطب الدكتور عزيز قائد التمرد، شكرى سرحان، في نبرة تؤكد العداء المسبق بلا تحقيق: «إنت اللى بتتكلم باسمهم؟.. مش أحسن تبطلوا حالة الشغب دى عشان نشوف مصالحكم..»، ولا ينتظر ردا فيملى على كاتب النيابة: «ونصحناهم بالعدول عن حالة الشغب فرفضوا».
يتوجه بعدها باتهام صريح لا ينهض على أساس: «انتو بالطريقة دى بتعطلوا التحقيق»، ثم يضيف وهو في طريق العودة إلى السيارة: «واُقفل المحضر في الساعة». وكيل النيابة «موظف» لا ينتسب إلى قيم المهنة وتقاليدها الراسخة، والأسلوب الذى يؤدى به إسكندر هو الأمثل للكشف عن غيبة القانون واليأس من إنصاف العدالة.


زائر الفجر
في «زائر الفجر»، ١٩٧٣، يقدم الموهوب إسكندر واحدا من أنضج وأعمق أدواره السينمائية، ويشكل مع إحسان شريف، زوجه حميدة، ثنائيا متجانسا يعبر بأفكاره وسلوكه عن قطاع عريض من المجتمع المصري. مدبولى وحميدة زوجان عجوزان يجاوران القتيلة، ماجدة الخطيب، التى يدور التحقيق حول ملابسات قتلها، وعلاقة الزوجين معها قوامها التوتر والصدام المتكرر. الزوجة أشجع وأجرأ، متماسكة قوية الأعصاب، أما مدبولى فإنه جدير بما تقوله عنه الزوجة في نبرة محايدة تخلو من التحامل وتعمد الإهانة: «طول عمره خواف».
مدبولى ليس متهما، لكنه يرتعد ويرتعش مسكونا بالخوف والقلق. العجز عن التحكم في عصاه، التى يتكرر سقوطها من يده، علامة على تهافت شخصيته وإيثاره الابتعاد عن شبهة المواجهة وأشباح المشكلات، وهل يملك صغار الموظفين إلا أن يكونوا خائفين؟.

يتوقف إسكندر منسى عن العمل في سنواته الأخيرة، ويتقاعد مضطرا بعيدا عن المهنة التى يهبها عمره. ليس أول الساقطين في دائرة الإهمال والنسيان، ولن يكون آخرهم بطبيعة الحال. على مشارف الثمانين يغادر في هدوء، ويترك تراثا محترما جديرا بالبقاء والإعجاب.