الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مصطفى بيومي يكتب: 150 شخصية روائية مصرية.. بهاء طاهر.. قالت ضحى «1»

مصطفى بيومى
مصطفى بيومى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.
عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».
«البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

بهاء طاهر.. "قالت ضحى"
امرأة أرستقراطية ذات جمال أخاذ وثقافة رفيعة وشخصية قوية متميزة في الرواية التى تحمل اسمها: «قالت ضحى». تسهم عوامل متشابكة متعارضة في تحديد ملامحها، وهى ثمرة لتفاعل مزيج من العناصر الذاتية والموضوعية، التى تجعل منها نموذجًا فريدًا في التعبير عن خصوصية الهموم الذاتية من ناحية وتجسيد الأزمة السياسية الاجتماعية من ناحية أخرى.
على الرغم من العداء المنطقى المبرر الذى تحمله تجاه ثورة يوليو، توافقًا مع انتمائها الطبقى والأضرار المادية التى تتعرض لها جراء سياسات اجتماعية تنحاز إلى الفقراء، فإنها تصارح زميلها الراوى بأنها مع الثورة: «أنا لا أكذب.. في أوروبا المتقدمة ذبحوا أمثالنا أيام الثورة في فرنسا وفى روسيا. هنا أنا أعمل مع حكومة الثورة. كيف أكون ضدها؟».
منطق متماسك وجيه ينهض على أسس عقلانية لا متسع فيها للإسراف العاطفي، ويتوافق مع رفضها للموقف المضاد الذى يتخذه الراوي، حيث السلبية واللامبالاة: «لا يضيَّع الدنيا الذين مع أو الذين ضد ولكن يضيَّعها المتفرجون»ِ.
التعاون مع النظام الحاكم، تسليمًا بالأمر الواقع، لا ينم عن أفكار ثورية لا تليق بها، لكنه ولاء للوطن في المقام الأول. إنها تميز بين السلطة، المتغيرة بطبيعتها، والوطن الذى يتجاوز الأنظمة والحكومات والسياسات، ويتجلى ذلك بوضوح في مطار روما، عندما تتصدى بعنف وحسم لشرطى الجوازات: «ردت عليه بالإيطالية وقالت شيئًا جعله يقطب جبينه ثم يختم جوازينا بعنف ويعطيهما لنا دون كلمة. وبينما نخرج من المطار قالت ضحى كان هذا الرجل يقول ها هم المصريون الاشتراكيون الذين يطردون الإيطاليين من مصر فقلت له نحن لم نطرد أحدًا ولكن الإيطاليين في مصر لا يريدون أن يعيشوا فقراء مثلنا أو كما يعيشون في إيطاليا.
قلت لها مازحًا ومن أين جاءتك هذه الثورية؟ فقالت بهدوء: لا غرابة في أن أحب بلدي.. لا أحد يحترمك إن لم تحب بلدك وتدافع عنه».
لا تدافع عن التوجه الاشتراكي، الذى يسلبها وأسرتها الأرض والمال والنفوذ والمكانة الاجتماعية، فالأمر عندها يتعلق بحب الوطن والدفاع عن كرامته واستقلاليته في مواجهة الغرباء.
تتحدث الإيطالية بطلاقة، فضلًا عن الإنجليزية والفرنسية، وتذهب إلى المكتب محمَّلة بالكتب في مجالات شتى: الرواية والشعر والمسرح والنحت والنبات والتاريخ. ثقافة رفيعة تنبع من التعليم الراقى المتميز، لكنها تعانى احتياجًا ماديًا ملحًا في ظل التحولات العاصفة بعد الثورة. الفقر مفهوم نسبي، ولا أحد ينجو من براثنه. لا يعنى هذا إدمان الشكوى والتباهى بالهموم، فمثل هذا السلوك مما تأخذه على الراوي: «لا أحب من يتباهى بهمومه. أنا أيضًا أحتاج إلى نقود. لو تعرف كم أحتاج إليها».
تطل أشباح الحاجة مع تبخر الثروة، وتبقى الطبقة القديمة مسلحة بقدر لا يُستهان به من النفوذ. ليس أدل على ذلك من تعيين ضحى في الوزارة بمكافأة كبيرة خارج «الكادر»، وبقرار من وكيل الوزارة نفسه كما يقول حاتم لصديقه الراوي، مؤكدًا أنها «سيدة مسنودة جدًا»!. مؤهلاتها الدراسية لا تتجاوز الشهادة الثانوية: «ولما عُينت ضحى في الوزارة جاءوا بها إلى مكتبنا لأنها لم تكن تعرف شيئًا غير اللغات الأجنبية».
جميلة ضحى، وليس مثل الراوى الغارق في حبها من يملك التعبير عن جوهر الجمال الذى يتجاوز الملامح الشكلية إلى التوهج الروحى والقدرة غير العادية على التأثير: «جميلة ضحى. طويلة القامة، تبرز استدارات الأنوثة في صدرها وأردافها ولكن دون أدنى تزيد.. وجهها متناسق الملامح، تحيط ببشرته الخمرية الصافية هالة من شعر أسود ناعم وغزير، ينسدل حول عنقها العالى الأملس ويذهب بعيدًا وراء ظهرها. ولكن عينيها كانتا هما حيرتي. يعلوهما حاجبان طويلان، كثيفان إلى حد ما، بامتداد العينين الواسعتين، ولم أرها يومًا تهتم بتزجيجهما أو تسويتهما، وكانا مع أهدابها الطويلة يعطيان إيحاء بأن هاتين العينين السوداوين الجميلتين مكحولتان باستمرار. ومع ذلك فنادرًا ما كانت ضحى تستعمل المساحيق والأصباغ فوق بشرتها الشفافة.
رأيت بالطبع من هن أجمل من ضحى، ولكن عندما تتكلم لم أكن أعرف من يشبهها».
ساحرة الجمال هذه ضحية، على نحو ما، للرجال الذين لا يحسنون الحب: الأب والزوج والراوى نفسه. ثلاثتهم من المحبين العاجزين عن فهمها وتلبية احتياجاتها الحقيقية، وثلاثتهم ممن يتسمون بقصر النظر والأنانية. الأب أول من يقوده الحب الأنانى إلى إفساد مبكر لحياة ابنته: «أنجبنى أبى بعد طول انتظار وكان يطمع في ولد. ولما جئته أنا صمم على أن أكون أفضل من أى ولد. قبل أن أبلغ الخامسة كان عندى في البيت مدرسة للبيانو ومدرسة للفرنسية. ولما كبرت قليلًا أصبح يأخذنى معه إلى الأرض ويشرح لى الزرع والحصاد وعلمنى ركوب الخيل. كل ذلك قبل أن أدخل المدرسة. صمم أن أكون أعجوبة لا مثيل لها، وكان يفاخر بى أمام أصحابه ويستعرض أمامهم مهارتى في اللغات وفى البيانو وفى الحساب. وقتها كان ذلك يسعدنى ويشعرنى بالغرور وكنت أشترك معه في لعبته. لم أعرف إلا فيما بعد أنه سرق منى طفولتى وفرحي».
يأبى الأب إلا أن يشكَّلها على هواه، ويسعى من خلالها لتحقيق أحلامه وطموحاته دون نظر إلى حقها في أن تعيش طفولتها دون ضغوط مرهقة مدمرة. ما يوفره لها من تعليم وعلم وخبرة جدير بالتقدير، لكن الإسراف في تشكيلها على هذا النحو يفسد السنوات الأجمل في حياتها، ويدفعها إلى التمرد على إرادته بعد نهاية الدراسة الثانوية، باحثة عن حياة بديلة مشبعة عبر الزواج من شكري، النجم اللامع في الحياة السياسية والاجتماعية، لكن شيئًا من أحلامها لا يتحقق: «كنا سعداء في شهر زواجنا الأول. ولكن بعد تلك الشهور بدأ يعود إلى حياته الأولى. كان مدللًا من النساء وكان ذلك يرضيه. كان هو أيضًا يريدنى الزوجة الذكية الجميلة التى يتباهى بها، التى تقيم له الحفلات والولائم وتنجب له الأولاد، بينما يعيش هو حياته الخفية اللذيذة بعيدًا عنها. ولم تكن مغامراته خفية حتى في تلك الأيام. لم يكن حتى يحاول إخفاءها».
ينتهى نفوذ شكرى ويتوقف صعوده بعد ثورة يوليو، ويدمن القمار كأنه يبحث فيه عن تعويض خسائره الفادحة، لكنه لا يحقق إلا المزيد من الخسائر: «من يومها بدأ يقامر. مازال حتى الآن يقامر. أظن أنه يريد كل مال الدنيا لكى يعوض ما خسره عندما طردوه من الوزارة ولكنه لا يربح أبدًا. وبالمناسبة هل سمعت عن أحد يربح حقيقة من القمار؟. قلت له مرة إنه يحاول أن يسترد بالحظ ما ضيعه التاريخ لكنه لم يفهم. ضاعت كل الأرض وضاع كل ما نملك لكنه لم يفهم». الاندفاع الأهوج لشكرى يزيد الأمور تعقيدًا، وضحى من تدفع ثمن الخسائر الباهظة المتراكمة، ليس بالمعنى المادى المباشر، بل من خلال الضغوط النفسية التى تتعرض لها من زوج أنانى مدلل لا يفكر إلا في نفسه:
«- من أى نوع؟.. في منتهى الرقة والحساسية. في منتهى الوسامة أيضًا. ولكن مثل كل الناس الذين في منتهى الرقة فهو أيضًا في منتهى الأنانية، ويعرف كيف يستغل قوته وكيف يستغل ضعفه.
- هذا كلام صعب عليَّ إلى حد ما. لو بسطَّت فربما أفهم.
- هل هو صعب حقًا؟ إذن سأشرح لك. تسألنى من أى نوع؟ هو من النوع الذى يمكن أن ينتحر لمجرد النكاية فىَّ. أسوأ من ذلك. يمكن أن يموت ميتة طبيعية لمجرد أن يعذبني».
ضحى بدورها تدمن الخمر تفاعلًا مع العذابات التى تطولها، وتصل في رحلتها مع الرجال إلى الراوي. تحبه وتقاوم حبه، ذلك أن فعل الخيانة ليس واردًا على الرغم من الخيانات المتكررة للزوج: «لم أعرف من الرجال غير زوجي. طرأ على ذهنى في لحظات غضب أن أخونه لأنه كان يخوننى طوال الوقت، ولكن ذلك كان غضبًا فقط، كنت أعرف في قرارة نفسى أنى لن أفعل ذلك، ليس من أجله هو ولكن من أجل نفسي. لا لأننى أحترمه ولكن لأننى أحترم نفسي، ولكن حتى في الليالى القليلة التى كان زوجى يبقى فيها في البيت كنت أراك معه وأراك بدلا منه.. وكان يملؤنى عار كأننى بالفعل خنته، وكان يملؤنى غضب.. غضب هائل في النفس». لا تتشبث ضحى بالشرف وفق المفهوم التقليدى الشائع للكلمة، فالبطولة في منظومتها الثقافية والأخلاقية للاحترام الذى يمثل القيمة الأسمى. يولد الحب الجديد في أعماقها، وفى الرحلة الإيطالية التى تجمعها بالراوى يبدأ التحقق والتجسيد العملي، كأنها تحقق معه حلم «شهر العسل» الذى كانت تتوق إلى قضائه في روما، تحقيقًا لنبوءة قريبتها قارئة الفنجان: «كنت مخطوبة وقتها واتفقت معه أن نقضى شهر العسل في روما لنحقق النبوءة، ولكن عندما تزوجنا كان مشغولًا جدًا. حصلت أزمة في الوزارة أو انتخابات جديدة، لا أذكر، وكان شهر العسل يومين في مينا هاوس..»
هل تقودها العلاقة مع الراوى إلى الخلاص الذى تنشده والحلم الذى تبحث عنه؟. لاشك في حبه لها، لكنها تتعلق بإطار أسطورى خارق يفوق قدراته المحدودة. لا تملك إلا أن تعترف بحبها وسعادتها: «فجأة فردت ضحى ذراعيها على الوسادة وراحت تهز رأسها لليمين واليسار وتضحك وتقول أنا سعيدة.. لا داعى للكذب.. أنا سعيدة.. سعيدة.
وكانت تضحك ضحكات خافتة وهى تهز رأسها وقد استنار وجهها وإن علقت به الدموع».
فرحة طاغية كهذه قد تمثل الذروة عند العاديات من النساء الباحثات عن الحب، والأمر مختلف عن ضحى. ما تحلم به وتتطلع إليه عابر للعادى الشائع المألوف في قصص الحب وما تقود إليه من إشباع. إنها إيزيس عصرية، وبحثها لا يتوقف عن أوسير. الرجال العاديون لا يليقون بها، والمراهنة على الراوى تخيب بعد الحمل والإجهاض واليقين الراسخ بأنه ليس من تريد.
في روما، تصل العلاقة إلى التوهج قبل أن تنطفئ، ويصل الراوى العاشق إلى المفتاح الرئيس الذى يمثل جوهر شخصية ضحى، المختلفة ذات البريق الساحر والغموض المثير: «سألت نفسى ماسر غرام ضحى بالأطلال؟. أفهم أن يهوى الإنسان الآثار، أن يعيش الماضى ويحييه في داخله بقراءة النقوش والأحجار. أفهم حين يزور الإنسان مدينة لم يرها من قبل أن يهتم برؤية آثارها القديمة كما يهتم بمعالمها الحديثة، ولكن عشق ضحى للآثار كان شيئًا آخر».
ليس الهروب إلى الماضى كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل الهرولة إلى المستقبل البديل عبر بوابة الماضى البعيد. ولعها بالزهور والعمارة امتداد لتفردها واختلافها، فلا غرابة إذن في تجاوبها العفوى مع الفكرة العابرة التى يطرحها الراوى ذات حوار بينهما: «لماذا لا تكونين أنت فاوست؟. لمعت عينا ضحى وهى تثبت نظرتها عليَّ، وقالت: ما أجمل هذه الفكرة! نعم، فاوست امرأة. ولم لا؟ من قال إن الرجل وحده هو الذى يمكن أن يسأم هذا الترتيب العقيم للدنيا وأن يتمرد عليه؟ من الذى قال إن المرأة ليست لديها أشواق الرجل وربما أكثر لكى تكسر هذا الطوق المستحيل وتحلق وراء المسارات الخارقة وتستمع إلى الأنغام المحرمة؟ ألم تكن حواء هى التى أرادت أن تقطف الثمرة؟».
مثل فاوست، تسعى ضحى إلى اكتشاف الجوهر الحقيقى للحياة، والأزمة الخطيرة التى تكابدها: من يصاحبها في رحلة الاكتشاف؟ الإجابة الموجعة: لا تجد أحدًا!.
تعود ضحى من الرحلة الإيطالية كائنًا مختلفًا، وتنخرط في منظومة الفساد التى لا تتسع للأحلام الأسطورية. البداية مع نقلها مديرة لمكتب وكيل أول الوزارة سلطان بك، وفى عملها الجديد يظهر وجه مغاير صادم لا صلة له بتاريخها القريب وأحلامها المجهضة. وفقًا لما يقوله سيد قناوى ويعرفه الجميع: «أعرف كل ما يفعله سلطان بك والهانم التى كانت تجلس معك هنا.. الرشاوى التى تقبضها، النسبة التى تأخذها والنسبة التى تعطيها لسلطان بك.. الشيكات المزورة وبدلات الاجتماعات الوهمية».
تحول مزعج بطبيعة الحال، ومهارات جديدة لا صلة لها بالثقافة والطموحات الأسطورية التى تسكنها تتسع الحياة لمثل هذه المتغيرات الغرائبية العاصفة، ولا تضيق بالنهاية التى تتوافق مع طبيعة الواقع المحكوم بالقوانين النفعية: «قدمت اليوم استقالتى من العمل، أو بدقة أكبر طلب منى سلطان بك أن أستقيل لإنقاذه شخصيًا».
في السطور الأخيرة من الرواية، يتساءل الراوى في حيرة: «ولكن لماذا رحلت إيسيت يا ضحى، ومتى تعود؟
قالت ضحى بصوت خافت وهى تبسط كفيها محاولة أن تبتسم: أنت لا تسأل إيسيت: متى؟ ولا تسألها: لماذا؟».
لا يحق لأحد أن يسأل الآلهة وأشباه الآلهة، ولا متسع لـ«متى» و«لماذا»؟!.