الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفيوم وجه الحياة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لو صدق أن للأماكن التى نزورها روحا نابضة تمنحها لنا لتعبر عن نفسها بفصاحة وتقول هذه أنا، فإن للفيوم هذه الخصيصة، داخلها يشعر بما يحرك لب قلبه وبصره، تفسح بألوانها فضاء مشهدية عامرة هنا وجه الحياة «الخضرة والماء»، وإن كان الشهر خريفيا، فبهاؤها يصارع الجفاف وقلة العناية، هى حضن، وادع، محب رحب تقابل به ضيفها، أو هكذا أحسستُ، وروحى وجسدى بمعيتها في رحلة جماعية الجمعة الماضية، في أول الطريق فسحة وبراح، وكون اليوم جمعة، وصباح باكر في القاهرة، فمبتدأ الرحلة أننا بكامل هدوئنا النفسي، نتأمل في الأمكنة حولنا يمنة ويسرة، من رافقتها وأصرت أن تقود سيارتها خلف باصات رفاقنا من قاربوا المئتين من العائلات، دعتنى بإلحاح وهى زميلة مهنة الصحافة، وإن تقاعدت عنها مبكرا، لمجالات أخرى، في رسالتها على «الواتس أب» كتبت بما معناه، امنحى جمعتك هذه راحة ونفسا، وثقى بذلك، وبيننا رهان إن لم تكن مدينة الخضرة والماء والوجه الحسن، واطلبى عندها ما تشاءين! قبلت دعوتها دون رهان بيننا، فيكفى أنها الكريمة، وللكرام كل العذر والمسامحة.
الفيوم مدينة قريبة وليست بعيدة عن القاهرة، والملقبة بمصر الصغرى لما يجتمع فيها من ميزات تاريخية وعمرانية، وبعضها تنفرد به، كما وأهلها من رحبوا بنا ساعة ولجنا أول بوابة لها. استقلالنا السيارة جعلنا نصل قبل رفاقنا بما يقارب الساعة، فشرعنا نقطع كيلومترات بعيدا عن المكان المتفق أننا سنزل به إفطارا وغداء، مضيفتى نسيت أن تملأ خزان (تنك) البنزين، وفجأة صاحت بى أن المؤشر بعلامات السيارة يضيء بالخطر، غيرنا سبيلنا إلى طرح السؤال عن الوقود، قابلتنا مجموعة سيارات صغيرة (توك توك)، سائقوها مجتمعون حول طاولة بها صحون صغيرة لوجبة «الفلافل والطعمية»، وعدد من أرغفة تتبادلها أيديهم، لم يجيبوا عن سؤالنا بل صاحوا مُهللين «تفضلوا افطروا معنا الأول»، شكرنا ترحابهم الباذخ، وقد أشاروا علينا أن نمضى في طريقنا لكيلومتر ونصف سنجد علامة لتجمع شاحنات ندخل شارعها ونستمر فيه إلى أن نجد محطة البنزين، عاجلنا بذلك، ودخلنا الشارع المقصود، كان حيا على فطرته جداول خضراء، بنات في جهة، وأولاد بمواجهتن يلعبون ويمرحون، أبواب بيوت مفتوحة مشرعة بانت نساء يجمعهن عمل مشترك، يفرزن أوراقا خضراء بدت وكأنها نبات الملوخية، طالعنا رجال يركبون حميرا عليها سلال مليئة ببضاعة، وفاجأنى بيت من أدوار ثلاثة، أجتهد مهندسه- أو لعلها ذائقة مالكه- في تصميمه جماليا كبهجة للناظر، نوافذ أعلاها مقوس محاط بنحت لوجوه ونباتات، شرفات مضلعة، السقف قرميد يحمل ألوان قوس قزح، وإن غلب البرتقالى المائل للاصفرار المشع، فزاده حضورا معلنا للناظر عن بعد، وانسجاما مع ألوان محيطة هى السماء، والتراب الطيني، ومساحات خضراء تناثرت في محيطه، ولعلى أضيف مساحة قريبة من ذات البيت، امتلأت بأصفر التبن الذى يعده عُمال شباب غذاءً لأحصنة يجرى استخدامها لأجل جولات سياحية، ونحن نقطع الحى غير المسفلت ما أقنعنا بعدد ما شاهدنا من استخدام حيوان صبور ييسر مهمة التنقل والعمل للمتساكنين الذين لم يتوقفوا عن علامة رفع اليد ترحابا، وبعضه مشفع بابتسامة عفوية صادقة، لحظة وصلنا المحطة، بانت لوحة مكتوبة بخط اليد «إنه سولار 80»، فُجعت ليلى الغندور داعيتى قائدة الرحلة، إذ ستغامر بهذا الحل الوحيد المتاح، وشاورتني، فنصحت بقليله وأن لا مفر، الذى سيمنحنا ما نجد به محطة أخرى لإرواء عطش، وبطن، حياة من ندين لها بعد الله بهذا الرحلة، وقد قصرت ليلى معها!
اجتمعت فضائل، ولعلها فوائد الرحلة الخمس كما قول الشافعى ومنه تفريج هم، واكتساب معارف، وصحبة أماجد، وسأضيف نظافة عامة الشوارع، وأمكنة السياحة، التى لم يتوقف العمال فيها من الجنسين عن ملاحقة ما يقصر فيه بعض السائحين من التزام العون الأخلاقى عند رمى مخالفاتهم، أما طقس الفيوم، جمعة زيارتنا فقد تحالف مع جماليات بحيراته، وسواقيه، وكان بنسماته العليلة مقابل بحيرة قارون وجداول خضراء وقفنا عندها، ومن صحبة الأماجد، من تعرفنا عليهم من عائلات مصرية قاربت طاولاتهم طاولتنا في مقر جمعتنا، كما ضيوف اختاروا مثلنا التعرف على الفيوم، والتى بالقبطية عنوان الحياة، الماء، من سوريا، وشابات في رحلة عائلية لعموم مصر من المغرب، ومن السودان، وشباب جالية إرتيريا بالقاهرة صدحوا بأغانيهم الشعبية رافعين علم بلادهم.
سأختم بالإشارة إلى وشائج حاضرة، جغرافية وتاريخية ومجتمعية، ربطت بدو الفيوم ببدو الشرق الليبى وما زالت حاضرة وفاعلة نسبا ومصاهرة ولهجة ومشاريع اقتصادية، وهى قديما إحدى النقاط المهمة للمرتحلين المغاربة حين عبورهم الديار المقدسة أيام كانت الصحراء المعبر الرئيس.