السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جبل الكراهية في "مناسك الخوف"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في رواية «مناسك الخوف»، تروى لنا سلوى محسن حكاية ملحمية من قلب الريف المصرى بلا رتوش.
لا شيء يُبطِلُ السحر الذى يضرمه الغياب. 
وربما تكون التفاصيل هى حقيبة السحر في الرواية الصادرة عن دار «الأدهم» (القاهرة، 2019): «مات أول أبناء جدى فدفنه في الغرب؛ فصار الغرب جبانتنا؛ بالقرب منها تقع بيوت أبنائه مع جواريه» (ص 11). «تزوج جدى من أربع نساء، وحاز سبع جوارٍ كالأبنوس؛ أهدى له أبو زوجته الحبشية بعضهن، واشترى جدى بعضهن الآخر. غيَّر جدى وبدَّل في نسائه؛ فكان يأمر شيخ الخفر بإناخة أقوى الجمال وأعقلها أمام باب الدوار؛ حاملًا طستـًا وإناءً نحاسيـًّا كبيرين مشدودين إلى سنامه. تقبع كلٌ من زوجاته الأربع في قاعاتهن مرتعدات الفرائص. يدخل شيخ الخفر قاعة إحداهن ويخرج حاملًا الإبريق النحاسى وسحارة الملابس؛ فترتاح قلوب الثلاث الأخريات. تحمل ضرائرها زوادتها من حبوب وسمن ولحم مخزون في برانى بما يكفيها حولًا، يحملها الرجال على ظهر الجمل. تمشى المطلقة غيابيـًّا مطأطئة الرأس دامعةً تاركة أبناءها وراءها». 
«يرفعها جدى إلى المحمل؛ واضعـًا في يدها ستة جنيهات ذهبية هى مؤخرها ونفقة متعتها، وإكرامية لأهلها؛ تشترى منها أرضـًا؛ قاصدًا ألا يكون لأبنائه منها أمٌ ذليلة تتسول العيش من ذويها أو الآخرين» (ص 13).
وفى النهايات الجليلة يأتى يقين الموت. 
ولنبدأ بالأب المريض، الذى تحكى ابنته «مسرة» كيف قضى فترة مرضه حتى الموت في بيت شقيقه، الذى ذهبت زوجته لترتاح عند أهلها بعد رعايتها للمريض طيلة ثلاثة شهور. 
«أغلقَتْ كلَ الحجرات بالمفاتيح؛ فنمتُ مع صغارى على الأرض في المطبخ المجاور لحجرته؛ لأكون على مقربة منه إذا نادى. في منتصف الليل نادى الموت؛ سارة وشقيقى وأشقاءه وجدي؛ فعرفتُ أنه الموت، وأنه لن ينتظر طويلًا» (ص 191- 192).
«ماتت ستى عن مائة عام وأكثر بقرحة الفراش. رفض قبرها استقبال النساء؛ فكلما نزلوا بالميتة انهار القبرُ بالرجال، ولم يفلحوا في إنقاذ بعضهم» (ص 194).
«عاش جدى محمد مائة عام وستة عشر، ومات في ركنٍ مظلم صغير يحبو إليه حين يريد أن يريح رأسه من الضجيج. كان مشهد جنازته مهيبـًا؛ وقف فيه أناسٌ من كل لونٍ وملة. احتل شريط المصرف بطول عشرات الأفدنة، وزحف حتى أطراف القرية. تواصل المشهد على حافة النهر حتى باب الجامع الذى شهد صلاة الجنازة، والذى لم يسمح سوى بعددٍ قليل من أبنائه وأحفاده للصلاة عليه» (ص 66).
«أهالوا عليه التراب، فغرست حليمة برعم صبار عند رأسه. في المساء تصدرت المشهد بعدودة شقت قلوب بناته وأحفاده؛ فأشعلت البكاء:
لما رأيت جسمك في الكفن انمد
عرفت إنى بعدك لا ليا عين ولا يد
يا عمود بيتى والعمود هدوه
يا هل ترى في بيت مين نصبوه
يا عمود بيتى والعمود رخام
يا هل ترى في بيت مين انقام» (ص 66). 
نحن أهل الغفلة ورعاة الأساطير.
هكذا «اقتتل غرابان وسقطا على قدمَى طارق؛ وكان ذلك نبوءة بموته» (ص 261)؛ و«صدَّق الرفاعية رواية ستى عن المبروكة التى عشرت دون طلوقة؛ وامتلأ ضرعها باللبن قبل أن تلد. طلبه الرفاعية للتداوى والتبرك؛ بينما لم يقتنع أغلبية الحبش أن ثمة عشارًا دون بذرة، وأن المبروكة محض بقرة؛ صادف أن أسمتها صاحبتها على اسمها» (ص 31).
توظف الروائية الأمثال الشعبية المصرية بالسرد، مثل «اللى يحوش البرد يحوش الشرد» (ص 9)، و«بفلوسك بنت السلطان عروسك» (ص 184)، و«يزعل عشيرى ولا نعشر أنا» (ص 217).
كما تعتنى بشدة بتفاصيل الثقافة المصرية بأطيافها القبطية والإسلامية والمصرية القديمة. هكذا نقرأ: «قديمـًا؛ كان الفيضان يبقى بيننا أربعة شهور؛ هى بئونة وأبيب ومسرى وتوت. يفيض النهر كل عام مع شروق الشمس من ناحية سبدت نجم إيزيس، أو الشعرى اليمانية كما يسميه العرب» (ص 7)؛ و«يعرفون الفترة بين كل ظهورين لنجم إيزيس بثلاثة فصول كبيرة؛ الفيضان، والبذار والحصاد؛ كل منها أربعة شهور متساوية، ويتبقى من السنة خمسة أيام وربع يسمونها المنسيّة» (ص 7).
ووسط حنق الجدة، تغنى «سارة» وأمها:
«سبت النور عيدنا
وإحنا فراحه بسيدنا
سيدنا فدانا
وبنوره رعانا
والشجرة الشجرة الهزازة» (ص 47).
وفى مجلس الذِكر، ينشدُ الشيخ حامد من شعر أم خالد النميرية:
«أحِنُّ لذكراه إذا ما ذكرتُهُ وتنهل عبراتٌ تفيض غروبها
حنين أسيرٍ نازحٍ شدَّ قيده... وأعوال نفسٍ غابَ عنها حبيبها» (ص 59)
وفى موضعٍ آخر، يعلو صوت الشيخ حامد بالغناء من شعر ابن عروس:
«يا قلب لكويك بالنار
وإن قلت عاشق لازيدك
يا قلب حملتنى العار
وتريد من لا يريدك» (ص 60)
ويزيد من شعر شاعر العامية المصرى ابن عروس:
«يا بت جملك هبشنى والهبشة جت في العباية
رمان صدرك دوشنى خلى فطورى عشايا» (ص 61)
ثم يختم شيخ المنشدين في الرواية من شعر شهاب الدين السهروردي:
«عودوا بنورِ الوصلِ من غَسَقِ الدُّجى
فالهجرُ ليلٌ والوصال صباحُ» (ص 61)
حفلت الرواية بالكثير من التعقيدات السيكولوجية من خلال شخصياتها الرئيسية، وبالذات «سارة» و«زاد» و«مسرة» و«على» و«باتعة» و«حنة» و«الحاج حسن»، بكل تلك النهايات الفاجعة.
«لم يحررنى موتُ أبى من الظلم؛ وكأنه تركه في جيوب بذلاته، جلابيبه، وأركان الدار. وكأن ستى حين ماتت، أودعتْ - في جدران دارنا - هواءها وترابها؛ حقدًا وهلاكـًا» (ص 194).
يواجهنا الواقع برعبه الذى يتوالد في متوالية تبدو بلا نهاية، والذى لم تحاول هذه الرواية تزييفه. القتل والثأر نموذجـًا.
في الرواية كثيرٌ من الحمم التى يقذف بها جبل الكراهية. إلا أننا نجد بين الفينة والأخرى ظلًا يأنسُ إليه اليمام.
نطالع بعد حوار رقيق بين «سارة» وأمها استفسارًا أصله الفضول «في حدائق العشق مائة فرع واثنان، فأين تحط القلوب!» (ص 36). وسرعان ما تأنس القلوب إلى الحقيقة بعد صفحات قليلة «المحبة مشيئة الخير وحسبانه وليس ثمة ما هو أصفى منها» (ص 42).
«مناسك الخوف»، روايةٌ حقيقية عن ريف مصر، جديرة بالقراءة والترحيب النقدى بهذا المستوى الرفيع من الغوص في قلب هذا الريف وحكاياته الثرية.