الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عودة إلى أكاديمية جيل دولوز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تبدو الرغبة، كمبدأ للخلق، مصممة هندسيا كى تنفتح على كل الواجهات وكل الوجهات. ليس غريبا أن يظهر التحليل النفسى الف ولع بأشياء غير مؤتلفة، والغالب أننا لا نجد شخصا يكشف عن العلبة السوداء لرغبته إلا وتجد الغير يضحك أو يشمئز. من أين نأتى يا ترى بألفة الأشياء التى شفرتها الجينية هى الغرابة؟ 
لا أحد يمكنه أن يجيب بوضوح، ولا بشكل نهائي. الطب النفسى قد يجيب ببراعة ولكنه أبدا لا يجيب نهائيا ولا بوضوح. 
تفاجئنا الرغبة بأنها ليست حرة ولا عفوية، نعلم جيدا أنها أشياء تحددها الظروف والمواقف التى تختلط بها بشكل لا يمكن إصلاحه ولا التصرف فيه. الرغبة عالم من الظواهر المغلقة المغلفة. أعماق بلا سطوح. أو سطوح هلامية يصبح العمق فيها جزءا من السطح.
فلنمهد لهندسة الرغبة إذن.
على ما تطل الشرفات الباذخة للرغبة؟ 
سيجيبنا جاك لا كان مسترجعا مفهوما فرويديا أليفا مفاده أنها موجهة صوب الداخل. الرغبة نافذة لا تطل إلا على الذات، ولا ترى إلا الصور المؤجلة، موعد الرغبة هو دوما موعد مع شيء مؤجل يحيل طبعا على شيء ثان مؤجل أيضا، ولا ثابت فى الرغبة إلا الشيء الذى نرغب فيه، فالرغبة - كما يقول لا كان مسترجعا مبدأ فينومينولوجيا رائجا مألوفا- هى بالضرورة الرغبة فى شيء ما (على وزن: كل وعى هو الوعى بشيء ما... كما علمنا إدموند هسيرل).
تنويعات
يقترح جيل دولوز مفهوم الآلة البديع؛ الآلات عنده «آلات راغبة» (وهو عنوان مبحثه إلهام فى كتابه المحورى «ألف طبق» الذى اجترحه كما هو معلوم مع شريكه فى الكتابة والتأمل فيليكس غوطاري)، الآلات هى تركيبات متكاملة شمولية منتظمة ذاتيا وقابلة للتحويل؛ هو المفهوم البنيوى بعدما تلاعب به العقل مابعد البنيوى البارع لدولوز. الآلة فى عرفة بنية موجهة ثوب الخارج. هى بنية مضادة للمفاهيم البنيوية لأنها كاملة البناء فى بنائها ولكنها تملك غاية خارجة عن بنيتها. وهكذا يستعمل دولوز التحليل النفسى لكى يصحح المسار البنيوي. الحالات النفسانية آلات تحدد فقط الرغبة، الرغبة الجامحة فى خلق شيء غير موجود داخل هذه الحالات، رغبات لا تلبث أن تختفى لصالح ظروف جديدة. هذا هو الباب الذى يدخل منه الهاجس السياسي، الرغبة كمفهوم فلسفى تحيل على التدخل السياسى الخلاق، لأن الرغبات فى نهاية مساراتها ليس نتيجة اختيار حر، بل على العكس من ذلك هى تسيير عقلانى لحالة من الاضطهاد أو الاستبداد والضغط المركب الذى لا يترك خيارًا آخر عدا الإشباع؛ والإشباع فعل سياسى لا ريب فيه... وإذا كنا لا نعلم من أين تأتى الرغبة فإننا نعلم ما طبيعة متطلباتها، أى نعلم الأنواع المختلفة من التدخل السياسى اللازمة لعلاجها. يبقى أن الخلق السياسى هو دائمًا تأثير للتكوينات المحلية الملموسة التى يتم ترتيبها أو معالجة الرغبة والطبيعة وفقًا لها... ودولوز يعمم هذا المبدأ على المفاهيم الفلسفية ليجعلنا نحصل أخيرًا على الإطار الأنطولوجى الأولى لفلسفته. 
هل تكون الأكاديمية هى مكانا لأنطولوجيات مخاتلة ولمشاريع سياسية خفية؟ لا بد أنها كذلك، ولكن: كيف ذلك؟
هذه الأنطولوجيا تؤكد للسياسة مكانًا محددًا تمامًا: ذلك الذى فتحته عمليات التمظهر والتمايز والانخراط فى الزمن والسيرورة (حسب مفاهيم برغسون أستاذه الأقرب على روحه). وهذا ما دامت هذه العمليات هى فقط الشكل الذى يأخذ تدخل الإرادة فى الطبيعة، أى خلق الحرية. تكمن الانطولولجيا الدولوزية فى إعادة صياغة العلاقات بين الإرادة والطبيعة، وإن كانت علاقات دائمة المطالبة بإعادة المراجعة فى هذا الزمن ما بعد الحداثى الذى نغرق فيه. والحرج متأت من الشعور المعاصر بإعادة تعريف الإنسان والطبيعة والحرية. أليست خصوصية ما بعد الحداثة هى وضع كل معارفنا الأليفة بين مزدوجين لأجل إخصاعها للفحص من جديد؟ أليست هذه المراجعة المخبرية التى تكتشف الفالت فى صلب الثابت، وتستخرج الرائع فى المروع؟ 
بما أننا اليوم نمر بزمن يكون فيه مفهوم الإنسان مسألة خطابية جدالية فإننا سوف نتريث قبل الاعتراف للإنسان بالحق فى أن يفرض غاياته على الطبيعة فى ظل وضع متأزم تازما حادا، والخلاصة هى أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة تتطلب إعادة التفكير... لذا تعطى فلسفة دولوز فى نفس الوقت نظرية وممارسة لفعل التدخل السياسى من حيث مهمتى تحديد الغرض وهندسة المهام: يجب أن تكون السياسة عبارة عن تحليل وإنتاج للترتيبات وليست وصفات جاهزة للاستعمال. فى هذا المعنى، يجب أن تكون السياسة إنشاء للقانون، ولفقه مجالات الحياة، وليس تطبيقا للقانون كما هى الحال عند كانط، وهذا ما جعله يصر على أنه يجب أن تركز الفلسفة السياسية على «تحليل الرأسمالية وتطوراتها»، على عكس ما حدث مع ميشال فوكو، الذى سلم بأن الرأسمالية أفضل الإمكانيات الواردة وأنها تملك إمكانية التصحيح الذاتي. وهو الخطأ نفسه الذى وقع فيه قبل أربعين سنة جان بول سارتر حينما وصف الشيوعى بأنها نهاية جيدة للتاريخ حتى وإن لم تكن النهاية الأفضل. (سارتر: نقد العقل الجدلي).
لقد كان دولوز – كما يتضح مرارا فى مجلد «محادثات»- واعيا بهذا الملمح المتعلق بهذه المهمة، يظل بعيد التحقق، وخاصة كأفكار مجردة. وبقدر ما يتعلق الأمر بالنظرية السياسية، من الممكن استحضار مثالين رئيسيين على الأقل على مثل هذه التحليلات: تحليل الرأسمالية فى مجلدى «الرأسمالية وانفصام الشخصية» (حيث يمكننا أيضًا العثور على نظرية متكاملة للدولة)، وتحليلات فوكو (لا سيما فيما يتعلق بالمجتمعات التأديبية، ولكن ليس فقط هنالك)، وهو ما يستحضره دولوز باستمرار فى كل مرة يدور الحديث حول سبل تنفيذ تحليلاته بأشكال ملموسة.
خلاصات
يبقى هاما ونحن نتجول داخل أكاديمية دولوز أن نستحضر فكرة أن مكان السياسة الذى تشغله النظرية السياسية الدولوزية يغطى مجال الوجود بأكمله («خطة الاتساق الكوني»). هل كان دولوز يفكر فى شيء كالأنطولوجيا السياسية؟ 
هذا يعنى تحديد وجود سياسة وإطار فلسفى وليس تاريخيا فحسب لوضع هذا الوجود عليه). الغالب أنه يمكننا أن نعتقد أيضًا أن هناك «أنطولوجيا سياسية» بعمق أكبر بمعنى أكثر عمومية: ففكر دولوز يدرج السياسة فى الوجود، ويجعل من الممكن نظريا أن تكون ممارسة سياسية على هذا النحو. لا يوجد شيء فى العالم، لا شيء يأتى منه لا يكون نتيجة لعملية رغبة وتحقيقا أو سيرا صوب التحقيق أو تأجيلا لموعد جديد بالرغبة (أى بالوجود)... 
يبقى أن هذه الإحداثية ستخرج معنا من الأكاديمية ونحن مشبعون بالريبة إزاء مغبات الانتقال من الإطار النظرى الجميل لهذا المشروع على مخرجاته الميدانية، فقد تعودنا على أنه لا يمكن للسياسة أن تكون منطقة أنطولوجية. ليس لأنها دائما عمل على شيء يسبقها سيكون قبلها بالضرورة، فهى ممارسة ميدانية لا تأتى إلا بعد وضع الشروط وعلاقاتها بعضها ببعض، وهى فى الوقت نفسه ستشارك بنشاط فى رسم خطوط المستقبلين النظرى والتطبيقى الممارسياتى للحياة السياسة.