السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كيمياء الرسائل بين الأحباب والأصدقاء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت وستظل الرسائل وسيلة بها خصوصية كبيرة للتواصل. ألا يكفى أنها رسالة كتبتها خصيصًا من أجل شخص بعينه كى تبلغه أشياء بعينها، أو حتى كى تقول له: «أذكرك». أليس هذا خاصًا جدًا. ربما كان خاصًا أكثر من ملاقاة صديق فى المقهى أو المرور به فى مكتبه حتى لإلقاء التحية. ينظر البشر للرسائل باعتبارها شيئًا له حميمية معينة، يقتحم دواخلهم بهدوء يماثل صمت حروفها، كأنها نظرات عميقة كاشفة لك. تقول الرسائل عادة: «أنا وأنت هنا والعالم هناك.. فما شأن العالم بما نقوله هنا؟!».
دعنا ننظر لما قالوه عن الرسائل سنجد فى مقدمة تلك الأقوال ما قاله امتياز النجال: «وتبقى الرسائل.. لا نعرف هل نكتبها.. أم هى التى تكتبنا؟!». وما قاله أنطونيو مولينا مونيوس فى إحدى رواياته: «كان يكتب الرسائل ولا ينتظرها حتى توصل إلى حياة خفيّة لا يتدخل فيها مرور الوقت ولا الواقع». وما قاله نجيب محفوظ: «فى الرسائل يجد الإنسان شجاعة أكثر». وما قالته إيزابيل الليندي: «الجميع يَندمون فيِما بَعد على رسائل الحُب التى كَتبوها». وما قاله فرانز كافكا: «كتابة الرسائل، معناها أن يتجرد المرء أمام الأشباح، وهو ما تنتظره تلك الأشباح فى شراهة، ولا تبلغ القبلات المكتوبة غايتها، ذلك أن الأشباح تشربها فى الطريق». وما قالته فرجينيا وولف: «نادرا ما نجد فى صندوق البريد شيء جدير بالاهتمام ومع ذلك، نستمر فى انتظار الرسائل».
استطاعت الرسائل أن تكتسب قوة خاصة نابعة من سحر يشبه الوحي، فأنت تكتبها لشخص لا تراه، تكتبه لما تبقى من حضوره حولك، ومن ملامحه فى ذاكرتك، ومن صوتك فى أذنيك، باختصار أنت تكتبها مما تبقى منه فيك، ومن منا لا يريد أن يبقى منه شيء فى الآخر، بل إننا قد نصل إلى مرحلة ميئوس منها كتلك التى صورها الكاتب عبد الفتاح مصطفى بصوت محمد فوزى فى أغنية «تملى فى قلبى يا حبيبي»، حين بلغ منه استجداء الحب مبلغه، فقال: «يا ريت أخطر على قلبك.. ولو تكرهنى وأحبك». توجع هذه الكلمات كثيرًا لكنها تستهدف أن تشعر بأن الآخر يراك حتى لو كرهك، فبقى منك شيء فيه. وفى ذات الصدد نجد ما كتبه العقاد لمى زيادة حين أرسل لها ولم ترد عليه، فأرسل إليها: «أرجو أن يكون ذلك عن عمد، فالعقاب عندى أهون من الإهمال». وذات الرسائل قست على مى نفسها كثيرًا حين سجنت قصة حبها لجبران خليل جبران قد عبر مسافات لا تنتهي، ويعبر عن ذلك كلمات جبران التى أرسلها لمى قائلًا فى يأس: «أنا ضباب يا مي.. أنا ضباب يغمر الأشياء، ولكن لا يتحد وإياها»، ثم يعاوده أمل حزين فيسأل عن عودة الربيع للحياة قائلًا: «فهل يأتى ربيع حياتنا ثانيةً فنفرح مع الأشجار ونبتسم مع العصافير، مثلما كنا؟» «هل تعود العاصفة وتجمعنا مثلما فرقتنا؟».
اهتم خبراء الاتصال والاجتماع كثيرًا بإضفاء جو من الأناقة يتناسب مع الخصوصية الإنسانية التى تعبق بها كل رسالة حتى لو كانت مجرد كلمات معدودة على الهاتف المحمول بصيغة SMS. تذكر طوال الوقت أنه يمكن قراءة شخصيتك من رسائلك أكثر مما يمكن أن تُقرأ من لقاء مباشر، فالرسالة بخط اليد هى «صورة العقل على ورقة»، كما قال أحد خبراء الخطوط، ويمكن بالسير على هدى كلماته أن نقول: «الرسالة بلوحة المفاتيح هى صورة الفكرة على شاشة»، وما الفكرة إلا صاحبها. وُضعت عدد من قواعد السلوك للمكاتبات منذ القدم منها احترام المرسل إليه بحفظ الألقاب، والاهتمام بكتابة العنوان الصحيح جدًا لأن الاهتمام بالعنوان يدل على الاهتمام بصاحبه، ومن ذلك الاهتمام أيضًا أن تكتب الرسالة بشكل صحيح لغويًا حسب مستوى اللغة المستخدمة بدءًا من الفصحى ومرورًا بالعامية، ووصولًا إلى الفرانكو آراب، ومن القواعد التى يجب مراعاتها أيضًا عدم الإفراط فى استخدام علامات الاستفهام والتعجب تحديدًا لأنه تحمل انطباعًا بالشك فيمن تخاطبه، أو بانعدام الثقة فى نفسك أو قلتها، ولا تستخدم اختيار الإرسال للكل أو تكرر ذات العبارات فى الرد على نفس الشخص كثيرًا أو عبارات الهرب، ومن أشهر عبارات الهرب فى الولايات المتحدة الأمريكية حين تسأل شخصًا: «How do you do?» أى «كيف أنت؟» فيرد بذات العبارة، وفى لغتنا العربية تجد من عبارات الهرب للرد على السؤال: «كيف أنت؟» عبارة: «بخير طالما أنت بخير». عليك أن تنظر لعبارتك بما يوفيك حقك بأن شخصا تريد إيصال فكرة لا شخص يهرب من توصيل أى فكرة.
تواجهنا عند كتابة الرسالة الإلكترونية مشكلة «التوقيع»، فقد أثبت بعض الدراسات أن توقيع الرسالة بخط يدك يضفى عليها اهتمامًا شديد الخصوصية لا يمكن تعويضه بأى شيء آخر، لذا أتاحت برامج إرسال البريد الإلكترونى بعض الخيارات التى لم تقدم حلًا كاملًا، لكنها تفى ببعض الخصوصية، وهى التوقيع الثابت بتصميم خاص بك صياغة وشكلًا، وهو يلحق بكل رسالة ترسلها لمجموعة معينة من الأفراد بعينهم بشكل دائم.
إن رسائلك بعض منك لشخص بعينه. دعها توصلك إليه بأناقة ومحبة. وتذكر أن الرسائل لها حضور أقوى من حضورك المادي، لأنها تصل فى وقت يملكون فيه المساحة التى يفكرون فيك فيها أكثر دون أية ضوضاء مادية، حتى إن إحدى صديقاتى أخبرتنى أنها ترى رسائلى الإلكترونية ذات الخلفية البيضاء بخلفية لها ظل وردي.. وأنا أصدقها.