الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المنصورة الجميلة «الأسيرة»... وسط القبح!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين كنا أطفالًا كنا نقفز فرحًا فى شوارع المنصورة الجميلة فنركض فوق كباريها «ونتزحلق» على صخور ضفاف نيلها الرحب ونصطاد سمكًا بسنانير الغاب الذي جئنا به من جزيرة الغاب في وسط نيلها. كنا نلتهم الكتب التهامًا فى قصر ثقافتها ونسمع الموسيقى العذبة في برجولات حدائقها الرحبة ونلعب الكرة في ساحاتها ونرى الحيوانات الغريبة والطيور المغردة في حديقة حيواناتها، ونشاهد الأفلام الجديدة في سينماتها الأنيقة ونحضر العروض الجذابة على مسرحها القومى، ونمر أمام قصورها الفارهة؛ لنُمتّع أعيننا وعقولنا بجمالها ونصلي في مساجدها التاريخية ونحن ننظر لنقوشها البديعة التي حملت آثار فنانيها لمئات السنين.
كانت السكة الجديدة وسوق الخواجات من أروع الطرق التي تمر بها لتنظر إلى حركة البيع والشراء والألوان البديعة والأنوار المبهجة في مدينة مليئة بالحيوية والجمال. وكان التجول على شارع البحر سواء على الأرجل أو بأحد الحناطير متعة لا تضاهيها متعة مع موسيقى دق أقدام خيولها. ولكن مع مرور الزمن أتى على المنصورة من لا يعرف ذكريات جمالها وروعته ولا يدرك عبق تاريخها العطر وثراءه، فحطم كل جميل فيها وأخذها أسيرة وسط سجن عفن شَكَّل القبح جوانبه! فلا توجد دولة فى العالم تحطم تراثها وتمسحه كما فعلنا بل تجدهم يجددونه ويحافظون عليه أمانة في أعناقهم للأجيال القادمة من بعدهم. فمساجد المنصورة التاريخية والتي تعود إلى العصر الأيوبي وعصور المماليك بعضها قد هُدِم كمسجد النجار وشُوِّه الباقي منه باليافطات وأسلاك الكهرباء والقذارة والمحلات التي لا تعرف ضابطًا أو رابطًا. أما القصور القديمة والعمارات ذات التراث الفرنسي والإيطالي الجميلة فقد تم إحلالها بالأبراج الغبية الجرداء أو أهملت لتنتظر الهدم بعد أن عاثت فيها مكاتب الدولة وحزبها الوطني إهمالًا في ذلك الزمن الغابر الذي جُرِّف فيه كل شيء جميل أحببناه.
لقد غدروا بكل ذكرياتنا الحلوة ومسحوها فطعنونا بقسوة في مخيلات طفولتنا الجميلة بخنجر مسموم. في زيارتي الأخيرة هذا العام للمنصورة هالنى كم الزبالة المتراكمة وتحطيم الأرصفة والإهمال والقذارة لدرجة تساءلت معها هل للمدينة حقًّا محافظٌ؟! هل لها فعلًا مجلس مدينة؟ هل لها فعلًا إدارة للمرور أو التخطيط أو النظافة؟ والله لو كنت اليوم محافظًا للدقهلية لكانت أولى قراراتي محو هذه الزبالة إلى الأبد بكل من رعاها وإعادة الحياة والشباب لهذه المدينة التي أصابتها الشيخوخة مبكرًا والحفاظ على جميع الأماكن الأثرية الباقية فيها ومنع هدمها منعًا باتًّا والحفاظ على ما بقي منها على قيد الحياة وإعادة ترميمها وإنارتها بيد شباب فاهم وواع ومتحضر وتحويلها لمتاحف جميلة. فهذا متحف لمشاهير المنصورة وهذا آخر لفناني المنصورة المعاصرين وآخر لصور المنصورة القديمة وتاريخها عبر العصور، وخامس لإبداع الشباب، وسادس للفنون اليدوية لأهل المنصورة وسابع وثامن وعاشر! تاريخ مصور ومقروء ومسموع مع أنغام بنت الدقهلية كوكب الشرق أم كلثوم وشعرائها الكبار إبراهيم ناجي وكامل الشناوي وعلي محمود طه. ولكُنْت رممتُ جميع مباني شارع البحر القديمة والمتبقية وأَنْرتها كما شارع المعز بل وأبهى لأزرع الجمال في وسط القبح حتى يخجل! والورود بين الزبالة حتى نتعلم! لقد سمعت بالصدفة عن مبادرة شباب «أنقذوا المنصورة» و«تراثنا أصلنا» ونشاط كلية السياحة والآثار والتربية النوعية للتعريف بآثار المنصورة المهملة وأفكارهم الجميلة لإنقاذها! لم أصدق نفسي من روعة هذا الشباب البَّض والنشط. بالله عليكم شجعوهم وأطلقوا أيديهم ليقيموا مشروعاتهم وادْعَمُوهم بالمال وأعطوهم الفرصة. فهم يرون الجمال حيث اختفى أو جاوز الاختفاء ويحلمون بالبهجة في مدينة كانت كما ذكرنا لهم جزيرة للورد والحب والجمال. فهم يحاولون أن يعيدوا تاريخًا لم يعاصروه بل سمعوا عنه، ويرون العالم من حولهم بأعين تبرق جمالًا وقلوبًا تنبض حبًّا. بِهِم وَبكُم يمكن للمنصورة أن تتحول مرة ثانية بمبانيها الجميلة وقصورها الرائعة التي لن تتكرر ومساجدها التاريخية التي تحكي قصصًا اندثرت في عقولنا لمدينة سياحية بديعة من الطراز الأول تدر دخلًا ضخمًا وتكون متعة لعيون أطفالنا وثراء لعقولهم.
المنصورة مدينة رائعة بتاريخ أروع نسيها للأسف بل وأسرها وسلب إرادتها واغتصبها من لا يعرف الجمال.. وأهملها كل من هو دخيل عليها.. فأعيدوها بشبابها الجميل والحالم بغد أفضل إلى عهدها الماضي الذي عاش بجماله خالدًا في ذكرياتنا!