السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أمزجة الأزمنة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
هنالك عسر أكيد يحدث على هامش تسمية «ما بعد»...فما بعد شيء ما هى تسمية الحنين إلى ما مضى. الشعور بعسر قطع الحيل السرى لمرحلة تاريحية ما. فقد أصبح مصطلح «ما بعد الحداثة» بدءا من سبعينيات القرن العشرين مرجعًا جماعيًا متفقا عليه. وربما يكون الدور الرئيسى فى هذا للناقد الأدبى الأمريكى مصرى الأصول «إيهاب حسن» إذ أنه نشر المقال الأول «ما بعد الحداثة: بيبليوغرافيا ميسرة» (1971) فى مجلة «التاريخ الأدبى الجديد»...وقد قدم ما بعد الحداثة كتيار نظرى فيما يتعلق بالفنون البصرية، ولكن أيضا الموسيقى والتكنولوجيا والتصورات الحسية مع أمثلة كثيرة جدا فى الأدب والميديا والحركات الاجتماعية كحركة «الهيبيي» أو تيار الشعر الأنجلوسكسونى «المفاهيمية conceptualism» ومجمل الفكرة حول المفهوم أنه ظل يمارس ما يسميه إيهاب حسن «لعبة عدم التعيين واليقظة» دون أن ينجح فى تحديد جدود إن كانت أصلا موجودة... إذ إن سندا غير منتظر للمفهوم قد جاء من ميدان الهندسة المعمارية، وهو سند لا علاقة له مبدئيا بالنقاشات الأدبية، ولكن جدلا كبيرا قد طور انتقادات عنيفة للحداثة فى الميدان المعماري؛ فالهندسة المعمارية هى الممارسة الجمالية الوحيدة التى لها تأثير مباشر على النسيج الاجتماعي، وبالتالى فهى ذات مخرجات ثقافية مباشرة لا جدال فيها، ومنه دخول هذا الجدل فى الميدان الفلسفي...
تنويعات
هكذا تم تقديم كتاب «تعليم لاس فيجاس» الذى نشره المهندس المعمارى روبرت فنتورى فى عام 1972 وشركاؤه كبيان معمارى حقيقي. ينتقد العمارة التى تمارسها الأجيال السابقة، فهو يرفض المشروع التقدمي، الثورى بشكل ما، والطوباوى التطهيرى للعمارة الحديثة. عنوان الكتاب مستوحى من نظرة إيجابية غير مسبوقة صوب نمط البناء المعروف فى لاس فيجاس، وتحديدا ذلك الجزء من الشارع الذى تتركز فيه أكبر الفنادق والكازينوهات فى لاس فيجاس، وهو تصميم يرى المؤلفون بأنه مقيت مقارنة مع ثراء نماذج عدم التجانس المعروفة فى مشاريع التوسع الحضرى التلقائية التى كانت تعرفها المدن الكبرى... فكأنها عملية تهديم لمزاج زمن ما وليس مجرد جدل جمالي.
لم يكن لهذا الكتاب البعيد عن الفلسفة أى أثر فى الوسط العلمى قبل أن يشير إليه الناقد تشارلز جينكس عام 1977 فى كتابه «لغة فن ما بعد الحداثة» وكذا فى كثير من محاضراته، فهو القائل بشكل رمزى قوى بأن الأسلوب العمرانى «ما بعد الحداثة» من الناحية النظرية يهدف إلى الترويج لهندسة معمارية تجمع بين «نحو» حديث و«نحو» تاريخاني، مع الاستجابة لذوق النخب وللإحساس الشعبى فى الوقت نفسه. 
قد يثيرنا هنا السؤال الفلسفي: هل يصنع راى (أو وجه نظر جمالية ما) مزاجا فلسفيا؟
هل يمكن لهذه العناصر التى تظل جزئية فى مطلق الأمر أن تتضخم كى تشكل الفكرة الأكثر ظهورا وهيمنة لزمن ما؟ وبمعنى آخر: مِن مَن تأتى أمزجة الأزمنة وإلى أين تذهب؟
هل بلغنا نقطة يغلب فيها الاستيطيقى الإيطيقي؟
إن الغالب هو أن الإيطيقا هى الباعثة على التغيرات الحضارية...فالإيطيقا هى التى تؤدى إلى التدخل المباشر فى الحياة... الإيطيقى بهذا الشكل هو السبيل إلى السياسى وإلى صناعة التاريخي.
فهل يمكننا أن نرى بعدا إيطيقيا جليا فى الثقافة الجمالية لمرحلة ما بعد الحادثة؟
الإجابة الدقيقة ستنتهى إلى الإجابة بنعم. هنالك بعد إيطيقى قوى جدا فى تلك الآراء التى تبدو عمرانية وكفى. فقد تفشى سريعا أثر فكرة الهندسة المعمارية فى آفاق معرفية أخرى، وقد يكون الأثر الأكثر وضوحا هو ظهور قسم يسمى «علم اجتماع ما بعد الحداثة» فى البرامج الجامعية فى بريطانيا لدى كلِ من عالم الاجتماع الأمريكى «سكوت لاش Scott lashوالجغرافى البريطانى ديفد هارفى David harvey... وكثيرون غيرهما من المنتمين إلى ما يسمى فى بريطانيا باليسار الجديد new left، وفحوى عملهم الثورة على المفاهيم السائدة فى ميدان علم الاجتماع الحداثية التى كانت رائجة فى الوسط الأكاديمى منذ فترة ما بين الحربين... مفاهيم جديدة تتجاوز الكونية صوب الخصوصية، والعالمية التوحيدية صوب التهجينية التى تتجاوز فكرة الطبقية...والتى تعيد النظر فى فكرة الطبقة والتشكيلات البشرية الملزمة وغير الضرورية – بتعبير كارل ماركس- فى نوع من التبشير بمجتمع جديد أكثر توازنا ووعيا بمخرجات حياته وضرورات اشتغاله الداخلي. مجتمع ما بعد حداثي، يدرسه علم الاجتماع ما بعد حداثى (Edward Soja; postmodern geographies)... وهذا هو التجلى الأعلى والمخرجات الأكثر خطرا لما سميناه أعلاه بمزاج الزمان (ميشال فوكو كان سيسميها ابستيمات المرحلة، والمصطلح الأكثر شيوعا على أيامنا سيكون باراديغمات المرحلة).
فى أوائل الثمانينيات، بدأ جينكس يقول ما خلاصته إن أهم مخرجات تطور المفهوم هو ظهور اتجاه يساوى ما بعد الحداثة بفلسفة اجتماعية تلبس لباس الموقف السياسي. لكى تتحول ما بعد الحداثة شيئا فشيئا من تسمية إشكالية إلى عنوان لبعد حضارى إنسانى نجح فيما أخفقت فيه كل الاتجاهات الفكرية والسياسية والعقيدية: نشر ثقافة التسامح والإيمان بالتعددية والتنظير للعيش المشترك، وقهر المركزيات التنويرية/الاستعمارية. وهذا ما تترسب فيه ما بعد الحداثة حينما تصب سريعا ودون تعميق مظر فى كلمات مفتاحية. 
الدور الكبير الذى لعبه جان فرانسوا ليوطار بدءا من عام 1979، بواسطة كتابه ذائع الصيت «الوضع ما بعد الحداثي؛ تقرير حول معرفة» هو تحديدا توسيع دوائر استعمال المصطلح، وضبط إطار نظرى «فلسفي» لهذه الحساسيات الفتية والاتجاهات المتداخلة التى ما فتئت تعطى شعورا بشتات مفهومى عبر عنه أحد ممثلي الاتجاه المتأخرين وأحد شهود المرحلة: برايان ماكهيل قائلا: «كل ناقد له ما بعد حداثيته الخاصة، وهو ينشئها بطريقته الخاصة، وذلك انطلاقا من زوايا مختلفة» (ليندا هتشيون، سياسة ما بعد الحداثة)... إن ليوتار يقدم «ما بعد الحداثة» كمنعرج حاسم فى التاريخ الإنساني، إذ يحدث شرخا فى مفاهيم شديدة العمق وبعيدة المدى فى وعى الإنسانية جمعاء بالحياة وبالأشياء. فهو يربط الوضع ما بعد الحداثى بالتطورات الحديثة فى العلوم الطبيعية وليس فى اتجاهات الموضة فحسب. وحسب مقاربته فإنه لم يعد بالإمكان اعتبار المجتمع ككائن عضوى أو كمجال للنضالات الجزئية، ولكن كشبكة من الاتصالات اللغوية...فالعلم قد تحول إلى لعبة لغوية – حسب تصور فيتغنشتاين- يشترك فيها البشر أجمعون... ستصبح كل التفسيرات الفلسفية للعالم والموروثة كيقين فلسفى وتاريخي، مجرد «قصص كبرى» أو قصص واصفة لوجهة نظر لا مصداقية كبرى ومطلقة لها.
خلاصات
ليوطار عارض بحزم النزوع الزمنى لتعريف ما بعد الحداثة كما ظهر عند ريتشارد جينكس. ورأيه هو أن ما بعد الحداثة موجودة فى كل مكان، وبالتحديد داخل الحداثة نفسها. ويصر ليوطار لإضفاء الشرعية على هذا الاتجاه على المفهوم الكانطى للتسامى sublimation، معارضا بذلك فكرة هابرماس عن «إزالة كل تسامٍ» عن الجماليات. نزوع التسامى فى اعتقاد ليوطار موجود فى جماليات ما بعد الحداثة. لكن عملية التأسيس الفلسفى لجماليات ما بعد الحداثة تخفى المفهوم الأكثر تغلغلًا فى الأنطولوجيا الجديدة لواقع ما بعد الحداثة. عندها يشرح ليوتارد هذا «النزاع» ويجعله قلب نظريته قائلا إن هنالك جانبا سياسيا حازما للنضال ضد أنظمة الواقع التى تفرضها المؤسسات خارج الفن.
من سيستمع بعد الآن إلى هذا البطل التاريخى الفاعل فى البشرية كلها الذى يستعمل القوة لكى يستطيع أن يحكى قصة الإنسانية كمسار بطولى للتحرر من خلال النهوض بالمعرفة والذى يعتمد على تطور العقل والمنطق وتطور دورهما فى الكشف عن الحقيقة؟
من سيعطى الشرعية العظيمة للحداثة بعد هذا؟ حداثة كانت شاهدة على أنماط من العنت فى التاريخ... وكانت شاهد الزور فى حق شعوب كانت ولا زالت تعاني؟.