الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فن الموسيقى عند نيتشه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان «نيتشه» مفكرًا حضاريًا ورسالته فى الحياة لم تكن رسالة فيلسوف صاحب مذهب نظري، وإنما كانت أساسًا رسالة نقد للحضارة التى يعيشها. وعلى الرغم من كل ما امتازت به نظرته إلى الحضارة الأوروبية المعاصرة، كان له من عمق النظرة ومن قدرة على النفاذ إلى أبعد الأغوار؛ فـ «نيتشه» نتاج أصيل للقرن التاسع عشر، وما كان فى وسعه – وهو يعيش فى ذلك القرن – أن يصدر حكمًا دقيقًا شاملًا على الحضارة الغربية المعاصرة له، لسبب واضح هو أن تلك الحضارة كانت تمر بفترة انتقال إلى عهد جديد لم تكن عناصره قد اكتملت بعد، بل لم يكن بعضها قد ظهرت بوادره أصلًا. وآراء «نيتشه» فى الموسيقى متناثرة فى مختلف مؤلفاته، ومعظمها يرتبط بعرضه وتحليله لموسيقى «فاجنر» أو غيره من الموسيقيين – كما بين ذلك د/ عبد الرحمن بدوى فى كتابه: فى الشعر الأوروبى المعاصر – والعنصر الأساسى الذى يجمع هذه المؤلفات هو أن الموسيقى تعبر عن الألم التراجيدي، حين تعجز اللغة عن التعبير الحقيقى للألم. لذلك نجد أن أصل المأساة يكمن فى الموسيقى. لقد كانت الموسيقى قبل «فاجنر» – من وجهة نظر «نيتشه» – ضيقة الحدود، لأنها تقتصر على أحوال ثابتة فى الإنسان – وهى ما يسميه اليونانيون باسم «الايثوس» – أى الطباع. وإنما بدأت الموسيقى بفضل «بيتهوفن» تعبر عن الإرادة الانفعالية – أى «الباثوس» – والأحداث الدرامية التى تختلج فى أعماق الإنسان.
وجاء «فاجنر» فبذل قصارى جهده لاكتشاف كل الوسائل المؤدية إلى خدمة الموضوع الموسيقي، ومن أجل ذلك أراد أن يتخلص من أخطاء الموسيقى التقليدية وادعاءاتها؛ وأن يجعل موسيقاه تعبر بكل جلاء عن عملية الوجدان والشعور. لكن سرعان ما حدث الشقاق بين «نيتشه» و«فاجنر» من خلال عوامل ثلاثة رئيسة: أولًا: ابتداء الشعور بذاته شعورًا قويًا، ثانيًا: ذهاب إيمانه بفلسفة شوبنهاور، ثالثًا: الروح المسيحية الهزلية التى أبداها «فاجنر» فى مسرح «بايرويت»؛ وبالتالى تبدد أمل «نيتشه» فى خلق حضارة جديدة عن طريق موسيقى «فاجنر». بمعنى عدم إحياء عهد التراجيديات اليونانية العظيمة، وارتداد «فاجنر» عن أفكاره الفلسفية الأولى.
ينظر «نيتشه» إلى الموسيقى على أنها وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يعيد تقويم قيمه، وأن يحول هذا العالم الأصم إلى مجال أروع وأفضل. ذلك لأن الموسيقى – فى رأيه – هى قبل كل شيء فن الانفعال، والفنان هو الذى يستطيع – فى مجاله الخاص – أن يطهر المجتمع الفاسد. فالموسيقى يمكنه أن ينقلنا إلى أجواء أنقى وأصفى بأن يزيد فنه كمالًا عن طريق تحقيق أمانينا ورغباتنا بالخيال فى إطار شكلي، وبذلك يساعد على إضفاء الانسجام والنظام على حياتنا. يقول «نيتشه»: «إن الموسيقى تحرر الروح وتخلق التفكير، وتتحدث من قلب العالم. الموسيقى الحقة قطعة من القدر والناموس الأول».