الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحكمة السياسية والخبرة العملية في مقامة عبدالله فكري الرمزية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يقنع عبدالله فكرى بتلك المشاهدات المثيرة والمواقف الخطيرة التى عايشها خلال سياحته داخل النفس الباطنية، فأراد أن يشاهد بنفسه كيف يمارس الملك (العقل) مهامه فى حكم دولته، وأن يقف بالتفصيل على مراكز القوى فى حاشيته أو معيته، ثم يراقب عن قرب كيفية صناعة اتخاذ القرار والدروب التى تسلكها المناقشات بين الحضور بإقناع الملك بالرأى الأصوب، فقد تصور بطل المقامة أن كل القيم المحمودة والمذمومة قد تحولت إلى شخصيات تتساجل وتتحاور حول القضايا المعروضة على الملك الذى يعرضها بدوره على وزرائه وعماله طالبًا المشورة والقرار الصائب، فيروى بطل القمامة أن العين والأذن قد نبهت الملك وأخبرته عما رأته وسمعته عن ذلك الطامع الغادر الذى جاء معتديًا ومحتلًا. 
وراح بطل المقامة يحدث نفسه: هل يمكن للنظام الجمهورى والممارسة الديمقراطية أن تصل إلى البصيرة والحكمة وغير ذلك من القيم العليا التى لا تفارق العقل وتعينه على اتخاذ القرارات وتأتى بالرأى الصواب حيال هذه المسألة؟ ويبدو أن بطلنا كان أقرب للشك فى قدرة هذا النظام على تباين ثقافة أفراده وطبائعهم على الوصول إلى الرأى السليم، ولعله تأثر بأفلاطون الذى ذهب إلى أن جهل الجمهور وقلة خبرة العوام لن تمكنهم من تدبر المسائل وانتخاب الحلول المقترحة، ثم المقابلة بينها وانتقاء الأصلح للتطبيق، أضف إلى ذلك افتقار معظم أفراد الشعب إلى قيمة الاعتدال، وذلك لأن طبائعهم الحسية والمادية هى التى تقودهم وتحول بينهم وبين الاتفاق على قرار واحد، فالأحاسيس والمشاعر نسبية ومتغيرة ولا ضابط لها يحكمها ويعصمها عن الوقوع فى عثرات الهوى وحبائل الشهوة، وعليه لا ينبغى الاحتكام إلى رأى العوام فى أمور الحكم والسياسة، بل البحث فى الطبائع البشرية عن ذلك الحكيم العاقل الفطن المجرب الذى تقوده حكمته وخبرته وأخلاقه إلى تسييس أمور المدينة أو الدولة على نحو يوفر لمواطنيها الحياة الكريمة الآمنة العادلة، ويحقق لهم السعادة. فالحكم الأمثل عند أفلاطون هو حكم الفاضل العاقل المستنير، وذلك على العكس من الساسة الديمقراطيين الذين أتت بهم الصناديق والعصابيات والمصالح الشخصية إلى كرسى الحكم دون أدنى وجه استحقاق، فالكثرة العددية هى التى انتخبتهم فحسب، فخطر المواطن الجاهل على الدولة محدد، أما خطر السياسى الجاهل فعليها عظيم المآل، فالسياسى الديمقراطى الجاهل ينحاز دوما إلى قيمة الحرية غير عابئ بمقاصدها أو مآلات ممارستها، فى حين أن الفيلسوف ينظر للقيم جميعها نظرة الطبيب إلى الأدوية ليختار منها المناسب لعلاج الواقعة أو الحالة أو المرض، ذلك على الرغم أن من بينها أو فى بعض تراكيبها المر والسم، أضف إلى ذلك أن المتعصب للحرية لديه دوافع لممارسة الأنانية والرعونة والجنوح والتطرف أكثر من ذلك الحكيم العاقل. 
وها هو عبدالله فكرى يحاول البرهنة على ذلك من خلال تلك الجلسة التى حضرها فى المملكة الباطنية. فذهب إلى أن معية الملك جمعت بين الجاه والنخوة والغضب والحسب، وجلسوا بجوار البخل والجمود والكسل والخنوع، فراق للفريق الأول مجابهة العنف بالعنف بغض النظر عن معوقات الواقع وملابساته، فالحماسة هى التى كانت تقودهم، وذهب الفريق الثانى إلى الحديث عن تكلفة الحرب ومدى استعداد الجيش والمخاطر والأهوال التى تخلفها الحروب وقيمة الصبر التى يجب على الشعب انتحالها عند مجابهة الشدائد، وجاء على لسان الجبن والرعونة «لم تأتِ هذه المملكة الأجنبية بما يغضبنا، وإن كانت أيضا لم تجيء فى الحقيقة بما يعجبنا، وهب أنها أساءت إلينا وظلمتنا، فالأولى أن نصبر على أمرها ونطويها على غرها ونتغافل عن شرها»، وجاء على لسان الحلم والخوف «من جبن سلم، ومن تهور ندم، ومن غرس الحلم شجرًا جنى العز ثمرًا». 
وقد أراد عبدالله فكرى من ذكر هذه الأقوال على ألسنة الممثلين للقيم لإثبات تهافت منطقهم وزيف أقوالهم وخطورة آراءهم على سياسة الدولة، وكل ذلك من جراء ممارستهم للديمقراطية المزعومة. وينتقل بطلنا إلى شخصيات أخرى مثل المال والكرم والسخاء الذين رفعوا شعار «من جاد بالمال نال الآمال واستمال الرجال وسلمت نفسه من الأوحال»، بينما ذهب الشح والبخل والحرص على المال إلى رفع شعار «من رشى عدوه أعانه عليه، وبقاء المال للأقارب خير من الاحتياج للأجانب». ورغم ذلك نجد بطلنا يمتدح المشورة ومحاورة الأغيار واحترام رأى الآخر، غير أنه يشترط أن تكون المشورة فى أهلها، يقصد الحكماء والعلماء والخبراء، ومن ثم فهى لا تصلح للعوام أو الدهماء، وذلك لأن جميعهم يحكم بمقتضى قناعاته الفردية، فالأناة ترغب فى التمهل فى حين أن الحسم والجرأة والإقدام يرغبون فى العجلة. ولم تفكر الأناة أو العجلة فى طبيعة الواقعة وملابساتها أى أن قرارهما لم ينبع من دراية بل من عاطفة. وإذا ما قابلنا شعارتهم برأى (شخصية العدل) «إن مقتضى الاعتدال النظر فيما نقل عنه ونتأمل لفظه ومعناه ونعامله بما يقتضيه من سلم وقتال، فنسير مع كل أحد من الناس حسب سيره». سوف ندرك الفارق بين الحكيم الفيلسوف العاقل المستنير وبين العوام من الناس. 
وصرح كل من العفة والبصيرة والاستقامة والحياء والخيال بتأييدهم لرأى العدل وحذروا فى الوقت نفسه العقل من دهاء الشهوة والغفلة والمداهنة مبينين أنهن يملكن القدرة على قلب الأشياء إلى ضدها وتبرير الآثام وتجميل القبح والرذيلة فى عيون الغافلين «إنهن يصورن كل شىء بغير صورته، فالمداهنة تجلى الحق فى صورة الباطل، والصدق فى صورة الكذب، وتضل الشهوة بسحرها القلوب، وتخرج الغفلة العقول عن نهج الاستقامة المطلوب». 
أما مثال الخيال - وهو المشخص لقيمة الإبداع - فقد أدرك أن نجاة الملك فى نصرة البصيرة لكى يسود رأيها ويقوى على كل المفسدات والشرور، ولما تحقق ذلك انطلق الخيال مبتهجا معلنا بأنه علة استقرار المملكة، فأصابه غرور وضله ظنه، فحسب سرير البلاهة عرش الحكمة العقلية والاستقامة العدلية، وأراد أن يتربع عليه، فوقع من فوقه وصار أضحوكة وصارت حكايته من بين الحكايات مصكوكة، ثم أدرك أن كل ما رآه محض خيال، فرجع وتاب عن ذلك الحال، وأراد أن يحكى تجربته لتصبح مثلًا وفصلًا بين عظيم الأقوال. وللحديث بقية