الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

للنقد ضروب ومقاصد في مقامة عبدالله فكري «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كان للشك ضربان، أولهما منهجى علمى، ومقصده هو التثبت للوقوف على حقيقة ما، أو إثبات واقعة أو وضع قاعدة، فالثانى ارتيابى ومذهبى مطلق، ومقصده هو إنكار المطروح ورفض المعروض ونقض الثوابت وهدم كل أشكال وآليات الاستدلال، فللنقد ضربان أيضًا، أولهما مباشر ومرسل وأقرب إلى التقارير العلمية فى صياغته ومضمونه منه إلى الأساليب والقوالب والخطابات الأدبية التى يتميز بها الضرب الثانى، الذى يتخذ من النهوج الفنية والتصورات الإبداعية للخطابات النقدية- غير المباشرة- تلك التى ترمى إلى التقويم والإصلاح وتوعية الأذهان من جهة، وحمل هموم وعذابات وصرخات وآراء أصحابها تجاه الواقع والأغيار من جهة أخرى، أى إن النقد فى ضربيه يسعى إلى البناء انطلاقًا من معايير وقواعد وأسس علمية أو قناعات الأنا الناقدة المبدعة وميولها وانتمائها، وقد ينتهج الناقد فى أعماله الفنية والأدبية وكتاباته الفلسفية أسلوب الرمز والتعمية رغبة منه فى حماية خطابه من السلطات المحيطة، أو حجب مضامينه عن أعين العوام الذين تحول ثقافتهم بين فهمه على الوجه الصحيح أو مناقشته أو قبوله، وقد حاول مفكرنا عبدالله فكرى الجمع بين دربى النقد فى صياغة مقامته بعد اختبار آرائه وعرضها على مائدة الشك المنهجى والتأكد من صلاحيتها فى الميدان التطبيقى.
أما عن المقامة الفكرية التى نحن بصددها فهى عبارة عن رسالة مترجمة عن اللغة التركية مجهولة المؤلف، ويرجع أصلها إلى نصوص مترجمة إلى التركية من بعض اللغات الأجنبية، فهى ترجمة عن ترجمة، وقد قرأها عبدالله فكرى -على حد زعمه- وأعجب بما حوته من أفكار وآراء، غير أن كاتب هذه السطور يشك فى ذلك التأصيل، أى رد النص لمؤلف مجهول ولغة مجهولة، وعندى أن عبدالله فكرى ادعى ما ادعاه اتقاء وتحسبًا لما قد يحدث من الجامدين أو الحاقدين، فيحرفون الكلم عن موضعه ويتهمونه بما لم يقل، وعلى أى حال؛ فقد أعاد مفكرنا صياغة تلك الرسالة المجهولة، وأضاف وعدل وحذف من نصوصها بالقدر الذى يوافق رؤيته وبغيته والثقافة العربية التى يريد نقلها إليها. كما راق له أن ينشئها فى قالب المقامة لتكون أكثر سهولة على القارئ من جهة، وجاذبة لأواسط المثقفين الذين يحلو لهم هذا اللون من ألوان الأدب الجامع بين الهزل والجد وقوة البيان فى التعبير ودقة المعانى والدلالات فى صياغة الأفكار من جهة أخرى. ولا ريب فى أن عبدالله فكرى قد تأثر تأثرا كبيرا بنهج أحمد فارس الشدياق (١٨٠٤-١٨٨٧م) فى الإحالات المعرفية والتعمية الرمزية التى تحتاج إلى قدر من الحصافة وإمعان العقل لتأويل الألفاظ، وكشف ما تستره من مرامى وأغراض، ولعله كتبها على هذه الصورة اتقاء للسلطات القائمة «القوة الرجعية أو سلطة القصر»، الأمر الذى يعفيه من الحرج والمساءلة، لا سيما لكونه رجل دولة من الطراز الأول، فقد كتبها أثناء عمله وكيلا لنظارة المعارف. 
أما السياق القصصى الذى نسج به مقامته؛ فقد انتحله من السابقين عليه بداية من ابن المقفع ونهاية بعلى مبارك، ولعل عمله بالتدريس وتهذيب الأمراء فى القصر- كما أشرنا- هو الذى رغبه فى محاكاة أسلوب المقامة فى النقد والتوجيه والتوعية والإصلاح، وقد ظهرت طبعتها الأولى سنة ١٢٨٩هـ/ ١٨٧٢م، ثم أعيد طبعها فى مجلة (روضة المدارس) فى العام التالى.
ومن أقوال عبدالله فكرى عن منهجه فى صياغة هذه المقامة، يقول: «كنت عثرت فى بعض أسفارى سابقا إلى القسطنطينية، دار الخلافة السنية، بكتاب لطيف الأسلوب باللغة التركية، يعرف بالمملكة الباطنية، وأصله من بعض الألسن الأجنبية، فنقلته إلى اللغة الشريفة العربية، بصورة مقامة أدبية، وضممت إليه بعض زيادات أظنها لا تخرج عن المطلوب، وتصرفت فى عباراته على أصل والأسلوب».. وللحديث بقية.