الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فن المسرح ومدرسة الوعي في مسامرات على مبارك "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد نجح على مبارك، إلى حد كبير فى التأليف بين هاتين الوظيفتين العمليتين للفن، أعنى الترفيه والتوجيه، وقد أفلح كذلك فى التوفيق بين رسالة الفن ومقاصد الدين، ويقول: «إن موافقة الفنون للأغراض واللذات والشهوات، فإنها فى نفس الوقت تهيئ النفس للتحلى بحسن الشمائل وصفات الكمال، والاستكثار منها، والتمكن فيها، والتباعد عن ذميم الأخلاق ورديء الطباع، فهى بهذه الحالة كالخادم للشريعة التى تأمر بالخير وتنهى عن الشر. ومن المعلوم أن أقوى شيء تتمسك به الأمة وتقوم عليه هو أمر دينها، إذ بدونه لا تنجح القوانين البشرية ولا تظهر آثارها ونتائجها، فإذا كان التياترو خادمًا للشريعة، مرغبًا فيما تدعو إليه وتأمر به، منفرًا عما تنهى عنه، كان بذلك من أعظم الملاهي، بل من أهم الأمور وأولاها بالاعتناء والرعاية». 
ولعلى على مبارك من أوائل الذين اتخذوا موقفًا إيجابيًا من الفنون وذلك على العكس من الفتاوى الوهابية التى كانت تكفر الموسيقيين والممثلين والرسامين والنحاتين، وغير ذلك من الفنون الجميلة، وأطلقوا عليها اسم البدع اللعينة والقبيحة، وأعتقد أن هذا المنطلق النقدى الذى سلكه على مبارك سوف يظل خير نصير لكل الأصوات التى تدعو للرقابة على ما يقدم من أشكال الفنون ليس رغبة فى تقييد حرية الإبداع بل العودة بمقاصد الفن إلى أصولها وقيمها ورسالتها، ولم يقف حديث على مبارك عن منافع فن التياترو عند هذا الحد بل راح يؤكد أن فن التمثيل والأعمال الروائية يمكن توظيفها فى العمليات التعليمية والتوعية الجماهيرية.
فقد أكد أن فنون الموسيقى والغناء والتمثيل المسرحى تعد آلية جيدة مجربة فى ثقافة الغرب للتواصل بين المرسل والمتلقي، ومن ثم يمكن لمجددينا استخدامها فى جل رسائلهم التنويرية ومشروعاتهم الإصلاحية فى شتى الميادين بداية من الأخلاق والسياسة والتعليم وانتهاء بالحديث عن الآداب العامة، والتهكم على العادات السيئة ونقض المعارف الخرافية التى تعوق العقل عن التفكير السليم والسخرية والضحك من التصرفات اليومية التى تنتج عن العامة والقرارات العشوائية التى يصدرها المسئولون وكبار الموظفين، والكشف كذلك عن تصرفات الحكام البذيئة وأفعالهم التى لا تليق مع مقام الرئاسة والحكم، وقد طبق هذه الرؤى والوظائف يعقوب صنوع الملقب بأبى نظارة، والعديد من الفرق المسرحية التى اتخذت من السخرية والتهكم سبيلًا لنقد الأوضاع القائمة فى مصر فى الريف والمدن، وشجعت فى الوقت نفسه الشباب على الثورة ضد المستعمر خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ذلك فضلًا عن تمثيل القصص التاريخية تلك التى تجعل المتلقى يعايش الحدث بكل ملابساته ويدرك الدروس المستفادة من الواقعات، ويشارك فى تقييم صانعي الأحداث الحقيقيين مثل الخلفاء والقادة والزعماء وأبطال السير الشعبية، ولعل هذا الدرب أفيد للجمهور من قراءة المقالات أو مطالعة الدراسات التاريخية - ولاسيما فى هذه الحقبة التى نعيشها - ويحذر مفكرنا من انحطاط الفنون وتفاهة موضوعاتها ومجون وشطط القائمين عليها، موضحًا أن ذلك العطب سوف يؤثر حتمًا على الثقافة السائدة وعليه يرى أنه من الواجب على قادة الفكر اعتبار الفنون جزءًا لا يتجزأ من مقومات الدفاع عن الأمن العام وصحة المجتمع، ومن ثم يجب محاربة كل من يحاول إضعافه أو إفساده، وذلك لأنه أعظم آليات الوعى بلا منافس، ومن أقواله عن منافع الفنون: «من الغريب أنك ترى الناس كلما ازدادوا فى التقدم والفنون زاد فيهم عدد أهل الطيش والسفه والجنون، فلا ينجح فى مداواة دائهم واستئصال شأفة أهوائهم وردعهم عن شرورهم وتجريدهم من ثياب غرورهم إلا إلباسهم ثياب الهزل وتأديبهم بسوط السخرية وعرضهم فى معرض الإهانة، ليفيقوا من غفلتهم، ويهبوا من رقدتهم، ويتخلص الخلق من مضرتهم، إذ لا عقوبة على الإنسان أشد من عرضه فى ميدان الهزل والسخرية، وجعله أمام الناس أضحوكة ومثلًا وعبرة... والتياترو هو مدرسة علمية لجميع الأحوال السرية، ومصباح يستضاء به فى الأحوال الباطنة، ومفتاح يفتح به جميع الخفايا الكامنة، حتى تظهر خطرات السرائر، وأوهام الظنون وأحاديث النفوس فتبدو من خلال ستورها». 
ويعنى ذلك أن على مبارك كان أكثر عقلانية وموضوعية فى محاربته للفنون القبيحة مثل الغناء والأعمال التمثيلية التى ارتدت ثوب الإباحة وتناست تمامًا الآداب والأخلاق العامة، وقادها التطرف والمجون والشطط إلى دروب منحطة وقادت المجتمع إلى أبشع الرذائل، بداية من بذاءة اللسان وفحش الكلام ونهاية بالعنف والتبجح ضد الوالدين والاستخفاف بالقوانين والسلطة الحاكمة.
أجل فلم ينصح الحكومات بمصادرة هذه الأعمال أو معاقبة منتجيها، بل حث أكابر المثقفين على نقدها وتبيان خطرها وتهافت مضامينها وحقارة أساليبها. 
وحقيق بنا الإشادة بذلك الرقى فى التفكير، فلم يهمل على مبارك دور الفنون فى تهذيب المشاعر وترقية الأذواق فى برنامج التنوير والإصلاح، فقد نظر إلى الفنون - كما بينا - على أنها آلية لا يمكن إغفال أثرها فى تثقيف الرأى العام، فكلما ارتقت هذه الآلية أمست دعامة قوية لآليات أخرى من آليات الإصلاح شأن التربية والتعليم والوعي.
فقد أشار على مبارك فى غير موضع من مسامراته إلى أن انحطاط الفنون لن يفسد الذوق العام فحسب بل سوف يؤثر تأثيرًا مباشرًا على الأخلاق والتعليم والسياسة والآداب العامة، وعليه فإن أى تباطؤ فى إصلاح فن التمثيل والغناء على وجه الخصوص سوف يؤدى إلى انحراف ثقافة المجتمع وتطرف شبابه وجنوح جل أطفاله وشبيبته: وليس أصدق من الواقع الذى نعيشه الآن على حديث على مبارك، فها هو يقول: «التياترو قناة ممتدة بين أفراد الأمة، يسيل بها ماء العلم والمعرفة من الأعلى إلى الأدنى، ومن العلماء والخواص إلى الجهال والعوام، فتزداد العلائق التأنسية، وتقوى الروابط الودادية، وتعم المنفعة، وتتم الفائدة، فإذا كان التياترو بهذه المثابة فهو أحسن المبتدعات البشرية، وأجملها، وأعظمها فائدة وأكملها». 
تلك كانت لمحات من مسامرات على مبارك، وعلينا أن نتساءل أليس هى الأجدر من غيرها لإدراجها ضمن كتب القراءة وتثقيف الشباب وتوعيتهم، كما أنها أفضل لتقويم أقلام الكتاب وتوجيهها إلى دروب الإصلاح؟