الخميس 13 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

الطريق المصري إلى الانتقال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عرفت مصر مراحل انتقالية مختلفة عبر تاريخها الحديث والمعاصر منذ بداية القرن التاسع عشر، إذا ما اعتمدنا واتفقنا على أن الحملة الفرنسية على مصر هي بداية هذا التاريخ، كما يذهب إلى ذلك الكثيرون من المؤرخين والباحثين في تاريخ مصر الحديثة، وقد غاب عن الأذهان تأمل حصاد هذه الخبرة الانتقالية التاريخية التي عرفتها مصر في غمرة المشكلات والقضايا التي رافقت الانتقال بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011.
دخلت مصر أولى مراحل الانتقال عقب جلاء الفرنسيين عن مصر وفشل حملة بونابرت إثر المقاومة الشعبية وثورات المصريين، فيما عرف بثورة القاهرة الأولى والثانية، ودور علماء الأزهر ونقابة الأشراف، وغيرهم من القوى التي مثلت محور المقاومة ضد الحملة الفرنسية، وكان حصاد ذلك تنصيب محمد علي واليًا على مصر بإرادة شعبية، وقاد محمد علي مرحلة انتقال مصر إلى الدولة الحديثة ببسط سيطرة الدولة، وتصفية جيوب المماليك، وإرسال البعثات إلى فرنسا، وتشكيل جيش حديث وصناعة ترتبط باحتياجات هذا الجيش.
ويذهب كثير من الباحثين في تاريخ هذه الفترة إلى أن تمكن محمد علي من إنجاز مرحلة انتقال مصر المملوكية إلى مشارف الدولة الحديثة لم يستند فحسب على ما خلفته حملة الفرنسيين من آثار في الوعي والإدراك لمصادر التخلف ومصادر التقدم والحداثة، بل ارتكز أيضا على حصاد الجدل الفكري والفقهي الذي سبق هذا التاريخ، والذي وقفت محصلته وراء محاوله علي بك الكبير.
لقد أدار محمد علي هذه المرحلة بذكائه الفطري وحس رجل الدولة المتمرس، وتعامل مع مختلف جوانب هذه العملية التاريخية الوطنية والمحلية والإقليمية والدولية بأساليب مختلفة أمنت هنا الانتقال إلى حين، كانت اليابان، التي لم تكن قد بدأت نهضتها بعد، ترقب ما تقوم به مصر ومحمد علي، ولم تخف انبهارها وإعجابها بإدارة مصر لعلاقاتها مع القوى الدولية الغربية، إلى حد أنها بعثت بوفد منها للتعرف على أبعاد وديناميكية الرؤية التي تعاملت بها مصر مع القوى الغربية في هذا الوقت المبكر؛ للاسترشاد بها في محاولتها التي أعقبت ذلك للنهضة.
وفي هذا الإطار فإن ثورة 23 يوليو 1952 كانت محطة بارزة في قدرة مصر وقيادتها على إدارة الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، من مجتمع النصف في المائة الذين يمتلكون النصيب الأكبر من الموارد إلى مجتمع ينحاز إلى الفقراء والبسطاء والعمال والفلاحين وهم الجمهرة الغالية من مواطني مصر، وقد أفضى هذا الانتقال إلى دخول مصر عصر الصناعات الحديثة والمشاريع العملاقة، والجلاء، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وتشكيل جبهة عالمية لعدم الانحياز، ورفض الانتماء لأي من القطبين الكبيرين آنذاك، ودعم حركات التحرير الوطنية في مختلف إرجاء المعمورة.
وأهم ما ميز هذه المرحلة في الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري الثوري، أن هذه المرحلة قد أفصحت عن مضمونها الاجتماعي والطبقي وانحيازها الواضح للشعب منذ اللحظات الأولى لانطلاقها، فما بين قيام الثورة وبين إقرار قانون الإصلاح الزراعي الأول لا يتجاوز عدة أسابيع، وقد عنى ذلك أن الثورة تنحاز لمطالب الحركة الوطنية والشعب، وأنها تمتلك رؤية لتصحيح الأوضاع الموروثة عن النظام السابق.
عرفت مصر في ظل قيادة عبد الناصر، وطوال الفترة من عام 1952 وحتى ما قبل عام 1967، كيف ترسخ أسس عهد جديد على الصعيد الوطني والعربي والدولي، وأدارت علاقاتها الدولية في مرحلة الاستقطاب الثنائي في النظام الدولي بكفاءة كبيرة، وحددت منذ وقت مبكر الدوائر الرئيسية لحركة مصر على مختلف الأصعدة، وحققت في ذلك إنجازات كبيرة وأطر وهياكل لا تزال تنبض بالحياة رغم تغير الظروف والمعطيات المحلية والدولية.
برحيل الزعيم جمال عبد الناصر وتولي السادات مقاليد الحكم بدأت مرحلة انتقالية جديدة، قوامها الانفتاح الاقتصادي وبلورة مصادر جديدة للشرعية، تمثلت في حرب أكتوبر، وتعددية مقيدة، بدأت بالمنابر ثم انتهت إلى الأحزاب وعقد السلام مع إسرائيل.
ورغم مساوئ هذه المرحلة الانتقالية وما ترتب عليها من نتائج، خاصة فيما يتعلق بانكفاء مصر وعزلتها عن العالم العربي وتقلص دورها الإقليمي والعربي وتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإنها أديرت وفق رؤية وإستراتيجية نتفق أو نختلف حول مضمونها، ولكنها في كل الأحوال تميزت بالوضوح، وأفصحت عن مضمونها وعنوانها منذ الخطوات الأولى لبدئها.
تمكنت المعارضة الوطنية واليسارية والناصرية والشعبية من الحؤول دون الانقلاب الكامل على منجزات العهد الناصري، وظل التعليم المجاني وتمثيل العمال والفلاحين في المجالس النيابية حقوقًا لا يمكن تجاوزها، كما بقي القطاع العام وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج معضلة كبيرة تستعصي تصفيتها بضربة واحدة أو في مدى زمني قصير.
كان قادة الاتحاد السوفيتي السابق، مع هبوب رياح التغيير العالمية وتعثر النماذج الاقتصادية الاشتراكية، يرقبون هذه المرحلة الانتقالية في مصر والعبور من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الرأسمالي بنوع من التقدير والإعجاب.
وبصرف النظر عن مآل هذه التجارب الانتقالية المصرية التي انتهت أولاها بمعاهدة لندن 1840، وثانيتها بعدوان إسرائيل عام 1967، وثالثتها باغتيال الراحل أنور السادات في عام 1980، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعًا هو امتلاك مصر لمقومات الانتقال والتغيير عندما تتوفر لإدارتها الإرادة السياسية والمشروع السياسي الواضح، وأنها جميعًا لم تنفصل عما سبقها بشكل تعسفي، حيث أكمل محمد علي مشروع علي بك الكبير، واستعان في مشروعه بنخبة ذلك العصر، كما أن نظام ثورة يوليو استعانوا برجال الإدارة والسياسة الذين انتمى بعضهم للنظام السابق “,”علي باشا ماهر“,”، واتخذوا من مطالب الحركة الوطنية السابقة على 1952 مرجعية لمشروعهم، ولم يستبعد السادات بعض التيارات الفاعلة في الحياة السياسية المصرية رغم عدم اتفاقه معها.
أما المرحلة الانتقالية الحالية فرغم أنها أعقبت ثورة شعبية ديمقراطية فإنها لم تستثمر إدارتها، سواء في ظل المجلس العسكري أو في ظل حكم الرئيس مرسي، الزخم الذي ولدته الثورة والحالة الثورية في مصر، بل حرص كلاهما على إطفاء هذا الزخم وتقليصه إلى الحدود الدنيا التي تتوافق مع رؤيته للثورة وحدودها.
وهكذا تم فك الارتباط بين مطالب الثورة وبين إدارة المرحلة الانتقالية، وأصبحت مطالب الثورة في طريق والإدارة في طريق آخر لا يلتقيان، فمطالب الثورة لا تزال في الميادين والشوارع، وتتسع المساحة بين هذه المطالب وبين الإدارة، وتم تهميش الثوار والكفاءات والاستعانة بذوي الثقة في الدوائر الضيقة لحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان.
وفضلاً عن كل ذلك –بل وبالإضافة إلى كل ذلك- فإن الإدارة الحالية لم تستطع أن توجه إعلانًا أو عنوانًا يكشف عن صدق نيتها وعزمها على تحقيق مطالب الشعب؛ ذلك أن الشعب المصري يدرك جيدًا أنه لا يمكن حل المشكلات المتراكمة بضربة واحدة سحرية، بل يريد أن يطمئن إلى أن من يتولى إدارة هذه المرحلة يمتلك النية والعزم على السير في طريق تحقيق هذه المطالب.
ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أننا نقيس الحاضر على ضوء الماضي، أو أن هذه المراحل الانتقالية التي مرت بها مصر متجانسة أو متماثلة، فلا شك أن لكل مرحلة ظروفها النوعية المختلفة تاريخيًّا ووطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ولكل منها خصوصية معينة، ولكن يبقى ما هو جامع بينها: أن مصر قادرة على الانتقال، وأنها تمتلك مقوماته، لو صدقت النوايا، وتوفرت الإرادة السياسية، وتغلبت المصالح الوطنية على المصالح الأيديولوجية والحزبية.