يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيم قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية التى أشرقت مع شمس الدنيا من «مصر» كفجر للضمير الإنسانى وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر، أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه- مفروضًا علينا- يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراح علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا فى أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا- دائمًا- كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عام من الأخلاق.
.. الواقع- الآن- فى عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدار التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
........................................................................................
ملخص ما سبق
كان الأسلوب العلمى هو الطريق الأوحد الذى اتبعه محمد على فى تأسيس جيش حديث وعصرى، فتوالت المدارس الطبية، مثل المدرسة الطبية العسكرية والمدرسة الطبية البيطرية، ولتسليح الجيش كانت مدرسة الهندسة العسكرية والأهم قطعًا كانت المدرسة الحربية بأسوان وغيرها من المدارس التخصصية كالفروسية والطوبجية والموسيقى العسكرية وغيرها.
........................................................................................
........................................................................................
المدارس والمصانع العسكرية فى عهد محمد على
أعطى محمد على مثلًا عاليًا إذ ألحق ابنه إبراهيم بهذه المدرسة؛ ليتعلم كواحد من طلبتها، وكان هذا من أكبر عوامل نجاح المشروع، ولا يفوتنا أن نذكر أن هناك حادثة صغيرة كان فيها إبراهيم مثالًا للطاعة والنظام، فقد اتفق أن «سيف» كان يمر ذات يوم هو ومن معه من الضباط فاتخذ إبراهيم موقفه فى أول الصف، مع أنه كان أقصرهم قامة، فأمسك سيف يده وأرجعه إلى آخر الصف الذى يتفق مع قامته، فامتثل إبراهيم ولم يعترض، فضرب بذلك مثلا فى تقبل الروح العسكرية الحديثة.
وقد نقلت هذه المدرسة من أسوان إلى إسنا، ثم إلى أخميم ثم إلى بنى عدى ثم إلى أثر النبى، واستدعى محمد على باشا نخبة من الضباط الفرنسيين، منهم الجنرال بواييه والكولونيل جودان، وكان لهم أثر واضح فى التدريب الحديث على نمط الجيش الفرنسى فى أداء الحركات والسير والمناورات، فيما عدا النداء فكان يصدر باللغة التركية، وطبقت على الجيش المصرى قوانين الجيش الفرنسى بعد ترجمة القوانين العسكرية إلى التركية للعمل بموادها.
كما رأى محمد على أن إنشاء جيش مصرى حديث لا يقام إلا بأن يجد كفايته من السلاح والذخيرة والمعدات فى داخل البلاد، لأن الاعتماد على جلب العتاد من الخارج يعرض قوة الدفاع الوطنى للخطر، ويجعل الجيش والبلاد بأسرها تحت رحمة الدول الأجنبية التى تتحكم فى تموينه بهذه المستلزمات الضرورية لكيانه.
لذا هدفت سياسته إلى إنشاء مصانع الأسلحة فى مصر؛ كى تكون مطالب الجيش منها متوفرة دوما ومناسبة لما يتطلبه التسليح.
وكان أول ما اتجه إليه التفكير هو إنشاء ترسانة القلعة لصناعة الأسلحة وصب المدافع، وقد اتسمت أرجاؤها ولا سيما بعد عام 1827، وكان أهم مصانع الترسانة وأكثرها عملا هو معمل صب المدافع، الذى كان يصنع كل شهر ثلاثة مدافع ميدان أو أربعة من عيار ثمانية أرطال، وصنعت فيه مدافع الهاون عيار 8 بوصة وعيار 24 بوصة، وكان يشرف على إدارة هذه الترسانة العظيمة أحد ضباط المدفعية الأكفاء وهو اللواء إبراهيم باشا أدهم، وقد اشتغل 900 عامل فى معامل الأسلحة، وكانت تنتج فى الشهر الواحد من 600 إلى 650 بندقية، وكانت البندقية الواحدة تتكلف 12 قرشا.
وفى مصنع آخر كانت تصنع زنادات البنادق وسيوف الفرسان ورماحهم وحمائل السيوف واللجم والسروج وملحقاتها من صناديق المفرقعات، ومواسير البنادق، ولما زار المارشال «مارمون» هذه الترسانة عام 1834 أعجب بنظامها وأعمالها وقال عنها «إن معامل القلعة تضارع أحسن معامل الأسلحة فى فرنسا من حيث الإحكام والجودة والتدبير».
ولم يكتف محمد على بمصانع القلعة، بل أنشأ فى الحوض المرصود عام 1831 معملًا لصنع البنادق بلغ عدد عماله 1200، وكان ينتج 900 بندقية فى الشهر الواحد على الطراز الفرنسى، وقد أنشئ مصنع ثالث للأسلحة فى ضواحى القاهرة، وكانت المصانع الثلاثة تصنع فى السنة 36.000 بندقية عدا الطبنجات والسيوف.
ولم يغفل عاهل مصر عن ضرورة إنشاء ترسانة لصنع السفن الحربية ومعدات الأسطول، فأنشأ ترسانة بولاق لصنع السفن الكبيرة، ثم أعقبها دار الصناعة الكبرى للسفن الحربية بالإسكندرية.
وأقام محمد على معملا للبارود بطرف جزيرة الروضة بعيدًا عن العمران، وقد تعددت معامل البارود فى مصر بعد ذلك فى القاهرة والأشموتين وإهناس والبدرشين الفيوم والطرانة عام 1833 وقد أعد محمد على باشا مكانا لخزن البارود والقنابل فى سفح المقطم.
ولكى يمد محمد على باشا الجيش بكل حاجياته، أنشأ مصانع الغزل والنسيج بالخرنفش عام 1819 وبولاق وورش الحدادة المختلفة ومصانع الجوخ فى بولاق للملابس، ومصانع الحبال اللازمة للسفن الحربية والتجارية، ومصنع الطرابيش بفوة، ومعمل سبك الحديد ببولاق، ومصنع الواح النحاس والصابون ودبغ الجلود برشيد.
وهكذا كان الجيش الحديث يسير على طريقين متوازيين أحدهما العلم والآخر التصنيع؛ ليضمن استمرار قوته وارتقاء كفاءته.